فصل: الفصل الثالث من الباب الرابع المقالة الثانية في الجهة الجنوبية عن مملكة الديار المصرية من مصر والشام والحجاز ومضافاتها مما هو واقع في الثاني والثالث والرابع من الأقاليم السبعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الفصل الثالث من الباب الرابع المقالة الثانية في الجهة الجنوبية عن مملكة الديار المصرية من مصر والشام والحجاز ومضافاتها مما هو واقع في الثاني والثالث والرابع من الأقاليم السبعة:

الأقاليم الواقعة جنوب الديار المصرية:
اعلم أنه قد دخل في جهتي الشرق والغرب المتقدمتين ذكر أماكن مما هو في جهة الجنوب عن مملكة الديار المصرية ومضافاتها، انساق الكلام إليها استطراداً واستتباعاً: كأطراف اليمن، والهند، والصين الجنوبية الخارجة عن الإقليم الثاني إلى جهة الجنوب مما استتبعته ممالك الشرق، والمقصود الآن الكلام على ما عدا ذلك، وهو بلاد السودان.
وهي بلادٌ متسعة الأرجاء رحبة الجوانب، حدها من الغرب البحر المحيط الغربي، ومن الجنوب الخراب مما يلي خط الأستواء؛ ومن الشرق بحر القلزم مما يقابل بلاد اليمن والأمكنة المجهولة الحال شرقي بلاد الزنج في جنوبي البحر الهندي، ومن الشمال البراري الممتدة بين الديار المصرية وأرض برقة، وبلاد البربر، ومن جنوبي المغرب إلى البحر المحيط.
والمشهور منها ست ممالك.
المملكة الأولى بلاد البجا والبجا بضم الباء الموحدة وفتح الجيم وألف في الآخر. وهم من أصفى السودان لوناً. قال ابن سعيد: وهم مسلمون ونصارى وأصحاب أوثان، ومواطنهم في جنوبي صعيد مصر مما يلي الشرق، فيما بين بحر القلزم وبين نهر النيل، على القرب من الديار المصرية.
وقاعدتهم سواكن بفتح السين المهملة والواو وكسر الكاف ونون في الآخر. قال في تقويم البلدان في الكلام على بحر القلزم: وهي بليدة للسودان، حيث الطول ثمانٌ وخمسون درجة، والعرض إحدى وعشرون درجة.
قلت وقد أخبرني من رآها أنها جزيرةٌ على طرف بحر القلزم من جهته الغربية قريبةٌ من البر يسكنها التجار. وصاحبها الآن من العرب المعروفين بالحداربة- بالحاء والدال المهملتين المفتوحتين وألف ثم راء مهملة وباء موحدة مفتوحة وهاء في الآخر، وله مكاتبةٌ عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية، ويقال في تعريفه الحدربي بضم الحاء وسكون الدال وضم الراء، على ما سيأتي ذكره في الكلام على المكاتبات في المقالة الرابعة فيما يعد، إن شاء الله تعالى.
وقد عد في تقويم البلدان من مدن البجا العلاقي بفتح العين المهملة واللام المشددة ثم ألف وقاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحت. من آخر الإقليم الأول من الأقاليم السبعة. قال في الأطوال: حيث الطول ثمانٌ وخمسون درجة، والعرض ست وعشرون درجة. قال في تقويم البلدان: وهي بالقرب من بحر القلزم، ولها مغاصٌ ليس بالجيد، وبجبلها معدن ذهب، يتحصل منه بقدر ما ينفق في استخراجه. قال المهلبي: إذا أخذت من أسوان في سمت المشرق تصل إلى العلاقي بعد اثنتي عشرة مرحلة. قال: وبين العلاقي وعيذاب ثمان مراحل ومن العلاقي يدخل إلى بلاد البجا.
المملكة الثانية بلاد النوبة بضم النون وسكون الواو وفتح الباء الموحدة وهاء في الآخر. ولون بعضهم يميل إلى الصفاء، وبعضهم شديد السواد. قال في مسالك الأبصار: وبلادهم مما يلي مصر في نهاية جنوبيها مما يلي المغرب على ضفتي النيل الجاري إلى مصر. قال في تقويم البلدان في الكلام على الجانب الجنوبي، وبينها وبين بلاد النوبة جبال منيعة.
وقاعدتها مدينة دنقلة. قال في تقويم البلدان: الظاهر أنها بضم الدال المهملة وسكون النون وقاف مضمومة ولام مفتوحة وهاء في الآخر. وما قاله هو الجاري على ألسنة أهل الديار المصرية، ورأيتها في الروض المعطار مكتوبةً دملقة بإبدال النون ميماً، مضبوطةً بفتح الدال، وباقي الضبط على ما تقدم.
وأنشد بيت شعر شاهداً لذلك. وموقعها في الإقليم الأول من الأقاليم السبعة.
قال ابن سعيد: حيث الطول ثمانٌ وخمسون درجة وعشر دقائق، والعرض أربعة عشر درجة وخمس عشرة دقيقةً. قال: وفي جنوبيها وغربيها مجالات زنج النوبة الذين قاعدتهم كوشة خلف الخط، وفي غربي دنقلة وشماليها مدنهم المذكورة في الكتب. قال الأدريسي: وهي في غربي النيل على ضفته وشرب أهلها منه. قال: وأهلها سودانٌ لكنهم أحسن السودان وجوهاً، وأجملهم شكلاً، وطعامهم الشعير والذرة والتمر يجلب إليهم. واللحوم التي يستعملونها لحوم الأبل: طرية ومقددةً، ومطبوخة. وفي بلادهم الفيلة، والزراريف، والغزلان.
قال في مسالك الأبصار: ومدنها أشبه بالقرى والضياع من المدن، قليلة الخير والخصب، يابسة الهواء. قال: وحدثني غير واحدٍ ممن دخل النوبة: أن مدينة دنقلة ممتدةٌ على النيل، وأهلها في شظفٍ من العيش، والحبوب عندهم قليلة إلا الذرة، وإنما تكثر عندهم اللحوم والألبان والسمك. وأفخر أطبختهم أن تطبخ اللوبيا في مرق اللحم، ويثرد ويصف اللحم واللوبيا على وجه الثريد.
وربما عملت اللوبيا بورقها وعروقها. قال: ولهم انهماك على السكر بالمزر وميل عظيم إلى الطرب.
ولما خاف بنو أيوب نور الدين الشهيد صاحب الشام على أنفسهم حين هم بقصدهم، بعث السلطان صلاح الدين أخاه شمس الدولة إلى النوبة ليأخذها لتكون موئلاً لهم إذا قصدهم، فرأوها لا تصلح لمثلهم، فعدلوا إلى اليمن واستولوا عليها، وجعلوها كالمعقل لهم. قال ابن سعيد: ودين أهل هذه البلاد النصرانية. قال في مسالك الأبصار: ومن هذه البلاد نجم لقمان الحكيم ثم سكن مدينة أيلة، ثم دخل إلى بيت المقدس. ومنها أيضاً ذو النون المصري الزاهد المشهور، وإنما سمي المصري لأنه سكن مصر فنسب إليها. وكان ملوكها في الزمن القديم وسائر أهلها على دين النصرانية، فلما فتح عمرو بن العاص رضي الله عنهم مصر غزاهم. قال في الروض المعطار: فرآهم يرمون الحدق بالنبل، فكف عنهم، وقرر عليهم إتاوةً في كل سنة. قال صاحب العبر وعلى ذلك جرى ملوك مصر بعده، وربما كانوا يماطلون بذلك ويمتنعون من أدائه، فتغزوهم عساكر المسلمين من مصر حتى يطيعوا، إلى أن كان ملكهم في أيام الظاهر بيبرس رحمه الله، رجلاً اسمه مرقشنكز وكان له ابن أخ اسمه داود فتغلب عليه، وانتزع الملك من يده، واستفحل ملكه بها، وتجاوز حدود مملكته قريب أسوان من آخر صعيد الديار المصرية؛ فقدم مرقشنكز المذكور على الظاهر بيبرس بالديار المصرية، واستنجده على ابن أخيه داود المذكور، فجهز معه العساكر إلى بلاد النوبة، فانهزم داود ولحق بمملكة الأبواب من بلاد السودان، فقبض عليه ملكها وبعث به مقيداً إلى الظاهر بيبرس، فاعتقل بالقلعة حتى مات، واستقر مرقشنكز في ملك النوبة على جزية يؤديها في كل سنة، إلى أن كانت دولة المنصور قلاوون ثم استقر بمملكة دنقلة في الدولة المنصورية قلاوون رجل اسمه سيمامون وغزته عساكر قلاوون سنة ثمانين وستمائة.
ثم ملكهم في أيام الناصر محمد بن قلاوون رجل اسمه أمي وبقي حتى توفي سنة ست عشرة وسبعمائة.
وملك بعد دنقلة أخوه كرنبس.
ثم خرج من بيت الملك منهم رجل اسمه نشلى فهاجر إلى مصر، وأسلم وحسن إسلامه، وأقام بمصر بالأبواب السلطانية؛ وأجرى عليه السلطان الملك الناصر رزقاً، ولم يزل حتى امتنع كرنبس من أداء الجزية سنة ست عشرة وسبعمائة، فجهز إليه السلطان العساكر مع نشلى المقدم ذكره، وقد تسمى عبد الله ففر كرنبس إلى بلاد الأبواب، فاستقر عبد الله نشلى في ملك دنقلة على دين الإسلام، ورجعت العساكر إلى مصر، وبعث الملك الناصر إلى ملك الأبواب في أمر كرنبس فبعث به إليه، فأسلم وأقام بباب السلطان، وبقي نشلى في الملك حتى قتله اهل مملكته سنة تسع عشرة وسبعامئة، فبعث السلطان كرنبس إليهم فملكهم وانقطعت الجزية عنهم من حين أسلم ملوكهم. قال في العبر: ثم انتشرت أحياء جهينة من العرب في بلادهم واستوطنوها، وعاثوا فساداً، وعجز ملوك النوبة عن مدافعتهم فصاهروهم مصانعةً لهم، وتفرق بسبب ذلك ملكهم حتى صار لبعض جهينة من أمهاتهم على رأي العجم في تمليك الأخت وابن الأخت، فتمزق ملكهم واستولت جهينة على بلادهم، ولم يحسنوا سياسة الملك، ولم ينقد بعضهم إلى بعض، فصاروا شيعاً ولم يبق لهم رسم ملك، وصاروا رحالة بادية على عادة العرب إلى هذا الزمان.
وذكر في مسالك الأبصار: أن ملكها الآن مسلم من أولاد كنز الدولة قال: وأولاد الكنز هؤلاء أهل بيتٍ ثارت لهم ثوائر مرات. فيحتمل أن أولاد الكنز من جهينة أيضاً جمعاً بين المقالتين.
وقد ذكر في مسالك الأبصار: أن سلطانهم كواحد من العامة، وأنه تأوي الغرباء إلى جامع دنقلة فيرسل إليهم؛ فيأتونه فيضيفهم وينعم عليهم هو وأمراؤه، وأن غالب عطائهم الدكاديك: وهي أكسيةٌ غلاظ غالبها سود: وربما أعطوا عبداً أو جارية.
وقد ذكر في الروض المعطار: أن عمرو بن العاص رضي الله عنه قصد قتال النوبة فرآهم يرمون الحدق بالنبل فكف عنهم، وقرر عليهم إتاوةً من الرقيق في كل سنة، ولم تزل ملوك مصر تأخذ منهم هذه الأتاوة في أكثر الأوقات حتى ذكر في مسالك الأبصار أنه كان عليهم في زمنه مقرر لصاحب مصر في كل سنة من العبيد، والأماء، والحراب، والوحوش النوبية- قلت: أما الآن فقد انقطع ذلك. {وربك يخلق ما يشاء ويختار}.
المملكة الثالثة: بلاد البرنو:
وبلاد البرنو- بفتح الباء الموحدة وسكو الراء المهملة وضم النون وسكون الواو. وهم مسلمون والغالب على ألوانهم السواد قال في التعريف: وبلاده تحد بلاد التكرور من الشرق، ثم يكون حدها من الشمال بلاد أفريقية ومن الجنوب الهمج.
وقاعدتهم مدينة كاكا بكافين بعد كل منهما ألف فيما ذكر لي رسول سلطانهم الواصل إلى الديار المصرية صحبة الحجيج في الدولة الظاهرية برقوق. وقد تعرض إليها في مسالك الأبصار في تحديد مملكة مالي على ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ومن مدنهم مدينة كتنسكي بكافٍ مضمومة وتاءٍ مثناة فوقية ساكنة ونون مكسورة وسين مهملة ساكنة وكافٍ مكسورة بعدها ياء مثناة تحتية. وهي شرقي كاكا على مسيرة يومٍ واحدٍ منها.
قلت: وقد وصل كتاب ملك البرنو في أواخر الدولة الظاهرية برقوق يذكر فيه أنه من ذرية سيف بن ذي يزن إلا أنه لم يحقق النسب فذكر أنه من قريش وهو غلط منهم فإن سيف بن ذي يزن من أعقاب تبابعة اليمن من حمير. على ما يأتي ذكره في الكلام على المكاتبات، وفي المقالة الرابعة فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
ولصاحب البرنو هذا مكاتبةٌ عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية، يأتي ذكرها هناك إن شاء الله تعالى.
المملكة الرابعة بلاد الكانم والكانم بكافٍ بعدها ألف ثم نون مكسورةٌ وميم في الآخر. وهم مسلمون أيضاً والغالب على ألوانهم السواد. قال في مسالك الأبصار: وبلادهم بين وأفريقية وبرقة، ممتدةٌ في الجنوب إلى سمت الغرب الأوسط.
قال: وهي بلاد قحط وشظف، وسوء مزاج مستولٍ عليها. وغالب عيشهم الأرز، والقمح والذرة، وببلادهم التين، والليمون، واللفت، والباذنجان، والرطب.
وذكر عن أبي عبد الله السلايحي، عن الشيخ عثمان الكانمي وغيره أن الأرز ينبت عندهم من غير بذر.
ومعاملتهم بقماش ينسج عندهم اسمه دندي، طول كل ثوب عشرة أذرع فأكثر.
قال: ويتعاملون أيضاً بالودع، والخرز، والنحاس المكسور، والورق، لكنه جميعه يسعر بذلك القماش.
وذكر ابن سعيد: أن جنوبيها صحارى فيها أشخاصٌ متوحشة، كالغول أقرب الحيوانات إلى الشكل الأدمي، تؤدي بني آدم ولا يلحقها الفارس.
وذكر أبو عبد الله المراكشي في كتابه التكملة عن أبي اسحاق إبراهيم الكانمي الأديب الشاعر: أنه يظهر بلاد الكانم في الليل أمام الماشي بالقرب منه قلل نار تضيء، فإذا مشى بعدت منه، فلا يصل إليها ولو جرى، بل لا تزال أمامه.
وربما رماها بحجر فأصابها، فيتشظى منها شراراتٌ.
قال في مسالك الأبصار: وأحوالها وأحوال أهلها حسنةٌ، وربما كان فيهم من أخذ في التعليم، ونظر من الأدب نظرة النجوم فقال إني سقيم، فما يزال يداوي عليل فهمه، ويداري جامح علمه، حتى تشرق عليه أشعتها، ويطرز بديباجه أمتعتها.
وقاعدتها مدينة جيمي. قال في تقويم البلدان: بكسر الجيم وبالياء المثناة تحت الساكنة وكسر الميم ثم ياء مثناة تحتية في الآخر.
حسب ما هو في خط ابن سعيد. وموقعها في الإقليم الأول من الأقاليم السبعة.
قال ابن سعيد: حيث الطول ثلاث وخمسون درجة، والعرض تسع درج، وبها مقرة سلطانهم.
قال في مسالك الأبصار: ومبدأ هذه المملكة من جهة مصر بلدة اسمها دلا وآخرها طولاً بلدة يقال لها كاكا وبينهما ثلاثة أشهر.
وقد تقدم أن كاكا هي قاعدة سلطان البرنو، وبينها وبين جيمي أربعون ميلاً.
قال وبها فواكه لا تشبه فواكه بلادنا، وبها الرمان، والخوخ، وقصب السكر.
قال في مسالك الأبصار: وسلطان هذه البلاد رجل مسلم.
قال في تقويم اللدان: وهو من ولد سيف بن ذي يزن.
قال في مسالك الأبصار: وأول من بث الإسلام فيهم الهادي العثماني، ادعى أنه من ولد عثمان بن عفان رضي الله عنه وملكها، ثم صارت بعده لليزنيين.
وذكر في التعريف: أن سلطان الكانم من بيتٍ قديم في الإسلام، وقد جاء منهم من ادعى النسب العلوي في بني الحسن.
ثم قال: وتمذهب بمذهب الشافعي رضي الله عنه.
قال في مسالك الأبصار: وملكهم على حقارة سلطانه، وسوء بقعة مكانه، في غاية لا تدرك من الكبرياء، يمسح برأسه عنانٍ السماء، مع ضعف أجناد، وقلة متحصل بلاد، لا يراه أحد إلا في يوم العيدين بكرةً وعند العصر.
أما في سائر السنة فلا يكلمه أحدٌ ولو كان أميراً إلا من وراء حجاب.
قال: والعدل قائم في بلادهم، ويتمذهبون بمذهب الأمام مالك رضي الله عنه، وهم ذوو اختصار في اللباس، يابسون في الدين، وعسكرهم يتلثمون، وقد بنوا مدرسة للمالكية بالفسطاط ينزل بها وفودهم.
المملكة الخامسة بلاد مالي ومضافاتها ومالي بفتح الميم وألف بعدها لامٌ مشددة مفخمة وياء مثناة تحت في الآخر.
وهي المعروفة عند العامة ببلاد التكرور.
قال في مسالك الأبصار: وهذه المملكة في جنوب المغرب، متصلة بالبحر المحيط.
قال في التعريف: وحدها في الغرب البحر المحيط؛ وفي الشرق بلاد البرنو وفي الشمال جبال البربر، وفي الجنوب الهمج.
ونقل عن الشيخ سعيد الدكالي: أنها تقع في جنوب مراكش ودواخل بر العدوة جنوباً بغرب إلى البحر المحيط.
قال في مسالك الأبصار: وهي شديدة الحر، قشفة المعيشة، قليلة أنواع الأقوات، وأهلها طوال في غاية السواد وتفلفل الشعور، وغالب طول أهلها من سوقهم، لا من هياكل أبدانهم.
قال ابن سعيد: والتكرور قسمان: قسم حضر يسكنون المدن وقسم رحالة في البوادي.
وقد حكى في مسالك الأبصار عن الشيخ سعيد الدكالي: أن هذه المملكة مربعة، طولها أربعة أشهر أو أزيد، وعرضها مثل ذلك، وجميعها مسكونةٌ إلا ما قل، وهذه المملكة هي أعظم ممالك السودان المسلمين.
وتشتمل على ثمان جمل:
الجملة الأولى في ذكر أقالميها ومدنها:
وقد ذكر صاحب العبر: أنها تشتمل على خمسة أقاليم كل إقليم منها مملكة بذاتها.
الإقليم الأول: مالي:
وقد تقدم ضبطه. وهو إقليمٌ واسطة الأقاليم السبعة الداخلة في هذه المملكة، واقعٌ بين إقليم صوصو وإقليم كوكو: صوصو من غربيه، وكوكو من شرقيه.
وقاعدته على ما ذكره في مسالك الأبصار: مدينة بني.
قال في مسالك الأبصار: بالباء الموحدة والنون ثم الباء الموحدة أيضاً.
قال: وهي ممتدة تقدير طول بريد في عرض مثل ذلك، ومبانيها متفرقة، وبناؤها بالبالستا.
وهو أنه يبنى بالطين بقدر ثلثي ذراع، ثم يترك حتى يجف، ثم يبنى عليه مثله، وكذلك حتى ينتهي، وسقوفها بالخشب والقصب، وغالبها قباب أو جملونات كالأقباء، وأرضها تراب مرمل، وليس لها سور، بل يستدير بها عدة فروع من النيل من جهاتها الأربع، بعضها يخاض في أيام قلة الماء، وبعضها لا يعبر فيه إلا في السفن.
وللملك عدة قصور يدور بها سورٌ واحد.
الإقليم الثاني: صوصو:
بصادين مهملتين مضمومتين، بعد كل منهما واو ساكنة. وربما أبدلوا الصاد سيناً مهملة سمي بذلك باسم مكانه.
قال في العبر: وهم يسمونها الأنكارية. وهي في الغرب عن إقليم مالي المقدم ذكره فيما ذكره في العبر عن بعض البقلة.
الإقليم الثالث: بلاد غانة:
بفتح الغين المعجمة وألف ثم نون مفتوحة وهاء في الآخر. وهي غربي إقليم صوصو المقدم ذكره تجاور البحر المحيط الغربي.
وقاعدته مدينة غانة التي قد أضيف إليها.
قال في تقويم البلدان: وموقعها خارج الإقليم الأول من الأقاليم السبعة إلى الجنوب.
قال ابن سعيد: حيث الطول تسعٌ وعشرون درجة والعرض عشر درج.
قال في تقويم البلدان: وهي محل سلطان بلاد غانة.
وقد حكى ابن سعيد: أن لغانة نيلاً شقيق نيل مصر، يصب في البحر المحيط الغربي عند طول عشر درج ونصفٍ، وعرض أربع عشرة.
وإليها تسير التجار المغاربة من سجلماسة في بر مقفر ومفاوز عظيمة في جنوب الغرب نحو خمسين يوماً، فيكون بين غانة وبين مصبه نحو أربع درج. وهي مبنية على ضفتي نيلها هذا.
قال في العبر: وكان أهلها قد أسلموا في أول الفتح الإسلامي.
وقد ذكر في تقويم البلدان: أنها مدينتان على ضفتي نيلها، إحداهما يسكنها المسلمون والثانية يسكنها الكفار.
وقد ذكر في الروض المعطار: أن لصاحب غانة معلفين من ذهب، يربط عليهما فرسان له أيام مقعده.
الإقليم االرابع: بلاد كوكو:
وهي شرقي إقليم مالي المقدم ذكره. قال في الروض المعطار: وملكها قائم بنفسه، له حشمٌ وقواد وأجنادٌ وزيٌ كامل؛ وهم يركبون الخيل والجمال، ولهم بأسٌ وقهرٌ لمن جاورهم من الأمم.
قال: وبها ينبت عود الحية: وهو عود يشبه العاقر قرحاً، إلا أنه أسود؛ من خاصته إنه إذا وضع على حجر الحية خرجت إليه بسرعة، ومن أمسكه بيده أخذ من الحيات ما شاء من غير جذعٍ يدركه أو يقع في نفسه.
ثم قال: والصحيح عند أهل المغرب الأقصى أن هذا العود إذا أمسكه ممسك بيده أو علقه في عنقه لم تقربه حيةٌ البتة.
وقاعدته مدينة كوكو بفتح الكاف وسكون الواو وفتح الكاف الثانية وسكون الواو بعدها.
وموقعها في الجنوب عن الإقليم الأول قال ابن سعيد: حيث الطول أربعٌ وأربعون رجة، والعرض عشر درج.
قال: وهي مقر صاحب تلك البلاد. قال: وهو كافر يقاتل من غربيه من مسلمي غانة ومن شرقيه من مسلمي الكانم.
وذكر المهلبي في العزيزي أنهم مسلمون، وبينهما وبين مدينة غانة مسيرة شهر ونصفٍ.
قال في الروض المعطار: وهي مدينةٌ كبيرةٌ على ضفتي نهر يخرج من ناحية الشمال، يمر بها ويجاوزها بأيام كثيرة، ثم يغوص في الصحراء في رمال كما يغوص الفرات في بطائح العراق.
قال ابن سعيد: وكوكو في شرقي النهر، ولباس عامة أهلها الجلود يسترون بها عوراتهم، وتجارهم يلبسون الأكسية، وعلى رؤوسهم الكرازين، ولبس خواصهم الأزرق.
قال في مسالك الأبصار: وسكانها قبائل يرنان من السودان.
الإقليم الخامس: بلاد تكرور:
وهي شرقي إقليم كوكو المقدم ذكره، ويليه من جهة الغرب مملكة البرنو، المتقدمة الذكر، وبها عرفت هذه المملكة على كبرها واشتهرت.
وقاعدتها مدينة تكرور بفتح التاء المثناة فوق وسكون الكاف وضم الراء المهملة وسكون الواو وراء مهملة في الآخر.
قال في الروض المعطار: وهي مدينة على النيل على القرب من ضفافه أكبر من مدينة سلا من بلاد المغرب، وطعام أهلها السمك، والذرة، والألبان، وأكثر مواشيهم الجمال، والمعز، ولباس عامة أهلها الصوف، وعلى رؤوسهم كرازين صوف، ولباس خاصتهم القطن والمآزر.
قال: وبينها وبين سجلماسة من بلاد المغرب أربعون يوماً بسير القوافل، وأقرب البلاد إليها من بلاد لمتونة بالصحراء آسفي بينهما خمسٌ وعشرون مرحلة.
قال: وأكثر ما يسافر به تجار الغرب الأقصى إليها الصوف، والنحاس، والخرز، ويخرجون منها بالتبر، والخدم.
قلت: وذكر في مسالك الأبصار: أن هذه المملكة تشتمل على أربعة عشر إقليماً وهي: غانة، وزافون، وترنكا، وتكرور، وسنغانة، وبانبغو، وزرنطابنا، وبيترا، ودمورا، وزاغا وكابرا، وبراغودي، وكوكو، ومالي.
فذكر أربعة من الأقاليم الخمسة المتقدمة الذكر، وأسقط إقليم صوصو، وكأنها قد اضمحلت وزاد باقي ذلك، فيحتمل أنها انضامت إلى صاحبها يومئذ بالفتح والأستيلاء عليها.
قال في مسالك الأبصار: وفي شمالي بلاد مالي قبائل من البربر بيضٌ تحت حكم سلطانها: وهم نيتصر، ونيتغراس، ومدوسة، ولمتونة، ولهم أشياخ تحكم عليهم إلا نيتصر، فإنهم يتداولهم ملوكٌ منهم تحت حكم صاحب مالي.
قال: وكذلك في طاعته قومٌ من الكفار بعضهم يأكل لحم الأدميين.
ونقل عن الشيخ سعيد الدكالي: أن في طاعة سلطانها بلاد مغارة الذهب. وهم بلاد همج، وعليهم إتاوة من التبر تحمل إليه في كل سنة، ولو شاء أخذهم ولكم ملوك هذه المملكة قد جربوا أنه ما فتحت مدينةٌ من هذه المدن وفشا بها الإسلام، ونطق بها داعي الأذان، إلا قل بها وجود الذهب ثم يتلاشى حتى يعدم، ويزداد فيما يليه من بلاد الكفار، فرضوا منهم ببذل الطاعة، وحمل قرر عليهم، وذكر نحو ذلك في التعريف في الكلام على غانة.
الجملة الثانية في الموجود بهذه المملكة:
قد ذكر في مسالك الأبصار عن الشيخ سعيد الدكالي: أن بها الخيل من نوع الأكاديش التترية.
قال: وتجلب الخيل العراب إلى ملوكهم، يتغالون في أثمانها، وكذلك عندهم البغال، والحمير، والبقر، والغنم، ولكنها كلها صغيرة الجثة، وتلد الواحدة من المعز عندهم السبعة والثمانية، ولا مرعى لمواشيهم، إنما هي جلالة على القمامات والمزابل.
وبها من الوحوش الفيلة، والأساد والنمورة، وكلها لا تؤذي من بني آدم إلا من تعرض لها. وعندهم وحش يسمى ترمي بضم التاء المثناة والراء المهملة وتشديد الميم، في قدر الذئب، يتولد بين الذئب والضبع لا يكون إلا خنثى: له ذكرٌ وفرج، متى وجد في الليل آدمياً صغيراً أو مراهقاً أكله.
ولا يعترض إلى أحد في النهار، وهو ينعر كالثور، وأسنانه متداخلة.
وعندهم تماسيح عظام منها ما يكون طوله عشرة أذرع وأكثر، ومرارته عندهم سمٌ قاتل تحمل إلى خزانة ملكهم.
وعندهم بقر الوحش، وحمير الوحش، والغزلان. وفيما يسامت سلجماسة من بلادهم جواميس متوحشة تصاد كما يصاد الوحش، وبها من الطيور الدواجن الأوز، والدجاج والحمام، وبها من الحبوب الأرز، والغوثي: وهو دق مزغب، يدرس فيخرج منه حبٌ أبيض شبيه بالخردل في المقدار أو أصغر منه، فيغسل ثم يطحن ويعمل منه الخبز، وهذا الحب هو والأرز هما غالب قوتهم، وعندهم الذرة وهي أكثر حبوبهم، ومنها قوتهم وعليق خيولهم ودوابهم، وعندهم الحنطة على قلة فيها، أما الشعير فلا وجود له عندهم البتة، وعندهم الفواكه البستانية الجميز وهو كثير لديهم؛ وعندهم أشجار برية ذوات ثمار مأكولة مستطابةٍ، منها شجر يسمى تادموت يحمل شيئاً مثل القواديس كبراً في داخلها شيء شبيه بدقيق الحنطة، ساطع البياض، طعمه مزٌ لذيذ يأكلون منه، وإذا جف جعلوه على الحناء فيسوده كالنوشادر، ومنها شجر يسمى زبيزور تخرج ثمرته مثل قرون الخروب فيخرج منها شيء شبيه بدقيق الترمس حلوٌ لذيذ الطعم، له نوى. ومنها شجر يسمى قومي، يحمل شبيه السفرجل، لذيذ الطعم يشبه طعم الموز، وله نوى شبيهٌ بغضروف العظم، يأكله بعضهم معه. ومنها شجر اسمه فاريتي، حمله شبيه بالليمون وطعمه يشبه طعم الكمثرى بداخله نوى ملحم، يؤخذ ذلك النوى وهو طري، فيطحن فيخرج منها شيء شبيهٌ بالسمن يجمد، وتبيض به البيوت، وتوقد منه السرج، ويعمل منها الصأبون، وإذا قصد أكله وضع في قدر على نار لينة، ويسقى الماء حتى يقوى غليانه وهو مغطى الرأس، ويسارق كشف الغطاء في افتقاده، فإنه متى كشف القدر فار ولحق بالسقف. وربما انعقد منه نار فأحرق البيت، فإذا نضج برد، وجعل في ظروف القرع، وصار يستعمل في المأكل كالسمن. ومتى جعل في غير ظروف القرع من الأنية خرقها. ويوجد بها من الثمرات البرية ما هو شبيه بكل الفواكه البستانية على اختلاف أنواعها، ولكنها حريفةٌ لا تستطاب، يأكلها الهمج من السودان، وهي قوت كثيرٍ منهم.
وبها من الخضروات اللوبياء، واللفت، والثوم، والبصل، والباذنجان، والكرنب، أما الملوخية فلا تطلع عندهم إلا برية، والقرع عندهم بكثرة. وعندهم شيءٌ شبيه بالقلقاس إلا أنه ألذ من القلقاس، يزرع في الخلاء فإن سرق منه سارقٌ، قطع الملك رأسه وعلقه مكان ما قطع منه، عادةٌ عندهم يتوارثونها خلفاً عن سلف، لا توجد فيها رخصة، ولا تنفع فيها شفاعةٌ.
وجبالها ذوات أشجار مشتبكةٍ، غليظة السوق إلى الغاية، تظل الواحدة منها خمسمائة فارسٍ. وفيها بغانة وما وراءها في الجنوب من بلاد السودان الهمج معادن الذهب.
وقد حكى في مسالك الأبصار عن الأمير أبي الحسن علي بن أمير حاجب عن السلطان منسا موسى سلطان هذه المملكة: أنه سأله عند قدومه الديار المصرية حاجاً عن معادن الذهب عندهم- فقال: توجد على نوعين: نوع في زمان الربيع ينبت في الصحراء، له ورقٌ شبيه بالنجيل، أصوله التبر. والثاني يوجد في أماكن معروفة على ضفاف مجاري النيل، تحفر هناك حفائر فيوجد فيها الذهب كالحجارة والحصى، فيؤخذ. قال: وكلاهما هو المسمى بالتبر. ثم قال والأول أفحل في العيار، وأفضل في القيمة. وذكر في التعريف نحوه. وذكر عن الشيخ عيسى الزواوي عن السلطان منسا موسى القمدم ذكره أيضاً أنه يحفر في معادن الذهب كل حفيرة عمق قامة أو ما يقاربها، فيوجد الذهب في جنباتها.
وربما وجد مجتمعاً في سفيل الحفيرة، وأن في مملكته أمماً من الكفار لا يأخذ منهم جزيةً، إنما يستعملهم في إخراج الذهب من معادنه. ثم قد ذكر في مسالك الأبصار: أن النوع الأول من الذهب يوجد في زمن الربيع عقيب الأمطار ينبت بين مواقعها، والثاني يوجد في جميع السنة في ضفات مجاري النيل. وذكر في التعريف: أن نبات الذهب بهذه البلاد يبدأ في شهر أغشت حيث سلطان الشمس قاهرٌ، وذلك عند أخذ النيل في الأرتفاع والزيادة. فإذا انحط النيل تتبع حيث ركب عليه من الأرض، فيوجد منه ما هو نبات يشبه النجيل وليس به. ومنه ما يوجد كالحصى. فجعل الجميع مما يحدث في هذا الزمن في أماكن النيل خاصة، وفيه مخالفة لما تقدم. بل قد قال: إن شهر أغشت الذي يطلع فيه الذهب وهو من شهور الروم، ويقع- والله أعلم- أنه يركب من تموز وآب يعني من شهور السريان، وهذا غلط فاحش. فقد تقدم في المقالة الأولى أن شهور الروم منطبقة على شهور السريان في الأبتداء والأنتهاء، دون ابتدأء أول السنة، وشهر أغشت من شهور الروم هو شهر آب من شهور الريان بعينه.
ثم قد حكى في مسالك الأبصار عن والي مصر عن منسا موسى القمد ذكره: أن الذهب ببلاده حمى له، يجمع له متحصلة كالقطيعة، إلا ما يأخذه أهل تلك البلاد منه على سبيل السرقة.
وحكى عن الشيخ سعيد الدكالي: أنه إنما يهادي بشيء منه كالمصانعة، وأنه يتكسب عليهم في المبيعات لأن بلادهم لا شيء بها. ثم قال: وكلام الدكالي أثبت وعليه ينطبق كلامه في التعريف حيث ذكر غانة ثم قال: وله عليها إتاوةٌ مقررة تحمل إليه في كل سنة. وبهذه البلاد أيضاً معدن نحاس وليس يوجد في السودان إلا عندهم. قال الشيخ عيسى الزواوي: قال لي السلطان موسى: إن عنده في مدينة اسمها نكوا معدن نحاس أحمر، يجلب منه قضبان إلى مدينة بنبى قاعدة مالي فبيبعث منه إلى بلاد السودان الكفار، فيباع وزن مثقال بثلثي وزنه من الذهب، يباع كل مائة مثقال من هذا النحاس بستة وستين مثقالأ وثلثي مثقال من الذهب.
وبهذه البلاد معدن ملح وليس في شيء من السودان الوالجين في الجنوب والمسامتين لسجلماسة وما وراءها ملحٌ سواه. قال المقر الشهابي بن فضل الله: حدثني أبو عبد الله بن الصائغ، أن الملح معدوم في داخل بلاد السودان، فمن الناس من يغرر ويصل به إلى أناس منهم يبذلون نظير كل صبرة ملح مثله من الذهب. قال ابن الصائغ: وحدثت أن من أمم السودان الداخلة من لا يظهر لهم بل إذا جاء التجار بالملح وضعوه ثم غأبوا، فيجيء السودان فيضعون إزاءه الذهب، فإذا أخذ التجار الذهب، أخذ السودان الملح. قال في مسالك الأبصار: قال لي الدكالي: وأهل هذه المملكة كثيرٌ فيهم السحر، ولهم به عناية حتى إنهم في بلاد الكفار منهم يصيدون الفيل بالسحر حقيقةً لا مجازاً، وفي كل وقت يتحاكمون عند ملكهم بسببه، ويقول أحدهم: إن فلاناً قتل أخي أو ولدي بالسحر، والسلطان يحكم على القاتل بالقصاص وقتل الساحر.
وحكى عنه أيضاً: أن السموم بهذه المملكة كثيرة، فإن عندهم حشائش وحيوانات يركبون منها السموم القتالة، ولا سيما من سمكٍ يوجد عندهم. قال الشيخ سعيد الدكالي: ومن خصيصة هذه البلاد أن يسرع فيها فساد المدخرات لا سيما فإنه يفسد وينتن فيها من يومين.
الجملة الثالثة في معاملة هذه المملكة:
ذكر في مسالك الأبصار عن ابن أمير حاجب: أن المعاملة عندهم بالودع وأن التجار تجلبه إليهم كثيراً فتربح به الربح الكثير، وكأن هذا في المعاملات النازية في مثل المآكل وما في معناها، والأ فالذهب عندهم على ما تقدم من الكثرة.
الجملة الرابعة في ذكر ملوك هذه المملكة:
قد تقدم أن هذه المملكة قد اجتمع بها خمسة أقاليم، وهي: إقليم مالي، وإقليم صوصو، وإقليم غانة منالجانب الغربي عن مالي، وإقليم كوكو، وإقليم تكرور في الجانب الشرقي عن مالي، وأن كل إقليم من هذه الخمسة كان مملكة مسستقلة، ثم اجتمع الكل في مملكة صاحب هذه المملكة، وأن مالي هي أصل مملكته. قال في مسالك الأبصار: وهو وإن غلب عليه عند أهل مصر اسم سلطان التكرور فإنه لو سمع هذا أنف منه، لأن التكرور إنما هو إقليم من أقاليم مملكته، والأحب إليه أن يقال صاحب مالي لأنه الإقليم الأكبر، وهو به أشهر. ونقل عن الشيخ سعيد الدكالي: أنه ليس بمملكته من يطلق عليه اسم ملك إلا صاحب غانة وهو كالنائب له وإن كان ملكاً. وكأنه إنما بقي اسم الملك على صاحب غانة دون غيره لعدم انتزاعها منه والأستيلاء عليها استيلاءً كلياً. فقد قال في التعريف: وأما غانة فإنه لا يملكها وكأنه مالكها، يتركها عن قدرة عليها: لأن بها وبما وراءها جنوباً منابت الذهب. وذكر ما تقدم من أن بلاد منابت الذهب متى فشا فيها الإسلام والأذان، عدم فيها نبات الذهب، وصاحب مالي يتركها لذلك لأنه مسلم، وله عليها إتاوةٌ كبيرة مقررة تحمل إليه في كل سنة.
وقد ذكر صاحب العبر: أن هذه الممالك كانت بيد ملوكٍ متفرقة، وكان من أعظمها مملكة غانة. فلما أسلم الملثمون من البربر، تسلطوا عليهم بالغزو حتى دان كثيرٌ منهم بالإسلام، وأعطى الجزية آخرون، وضعف بذلك ملكه غانة واضمحل، فتغلب عليهم أهل صوصو المجاورن لهم، وملكوا غانة من أيدي أهلها. وكان ملوك مالي قد دخلوا في الإسلام من زمن قديم.
قال: ويقال: إن أول من أسلم منهم ملك اسمه برمنداتة بباء موحدة وراء مهملة مفتوحتين وميم مكسورة ونون ساكنة ودال مهملة بعدها ألف ثم نون مشددة مفتوحة وهاء في الآخر فيما ضبطه بعض علمائهم. ثم حج بعد إسلامه، فاقتفى سننه في الحج ملوكهم من بعده.
ثم جاء منهم ملك اسمه ماري جاظة ومعنى ماري الأمير الذي يكون من نسل السلطان ومعنى جاظة الأسد، فقوي ملكه وغلب على صوصو، وانتزع ما كان بأيديهم من ملكهم القديم وملك غانة الذي يليه إلى البحر المحيط. ويقال: إنه ملك عليهم خمساً وعشرين سنة.
ثم ملك بعده ابنه منسأولي ومعنى منسا بلغتهم السلطان، ومعنى ولي علي، وكان من أعظم ملوكهم، وحج أيام الظاهر بيبرس صاحب مصر.
ثم ملك من بعده أخوه والي.
ثم ملك من بعده أخوه خليفة وكان أحمق، يغلب عليه الحمق فيرمي الناس بالسهام فيقتلهم، فوثب به أهل مملكته فقتلوه.
وملك بعده سبطٌ من أسباط ماري جاظة المقدم ذكره، واسمه أبو بكر على قاعدة العجم في تمليك البنت وابن البنت.
ثم تغلب على الملك مولى من مواليهم اسمه ساكبورة، ويقال سيكره فاتسع نطاق مملكته وغلب على البلاد المجاورة له، وفتح بلاد كوكو واستضافها إلى مملكته، واتصل ملكه من البحر المحيط الغربي إلى بلاد التكرور، فقوي سلطانه، وهابه أمم السودان، ورحل إليه التجار من بلاد الغرب وأفريقية. وحج أيام السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ورجع فقتل في أثر عوده.
وملك بعده قو ابن السلطان ماري جاظة.
ثم ملك من بعده محمد بن قو ثم انتقل الملك من ولد ماري جاظة إلى ولد أخيه أبي بكر.
فولي منهم منسا موسى بن أبي بكر. قال في العبر: وكان رجلاً صالحاً، وملكاً عظيماً، له أخبار في العدل تؤثر عنه، وعظمت المملكة في أيامه إلى الغاية، وافتتح الكثير من البلاد.
قال في مسالك الأبصار: حكى ابن أمير حاجب والي مصر عنه، أنه فتح بسيفه وحده أربعاً وعشرين مدينةً من مدن السودان ذوات أعمال وقرى وضياع. قال في مسالك الأبصار: قال ابن أمير حاجب: سألته عن سبب انتقال الملك إليه- فقال: إن الذي قبلي كان يظن أن البحر المحيط له غاية تدرك، فجهز مئين سفن، وشحنها بالرجال والأزواد التي تكيفهم سنين، وأمر من فيها أن لا يرجعوا حتى يبلغوا نهايته أو تنفذ أزوادهم، فغأبوا مدة طويلةً، ثم عاد منهم سفينةٌ واحدة وحضر مقدمها، فسأله عن أمرهم. فقال: سارت السفن زماناً طويلاٍ حتى عرض لها في البحر في وسط اللجة وادٍ له جرية عظيمة، فابتلع تلك المراكب وكنت آخر القوم فرجعت بسفينتي، فلم يصدقه: فجهز ألفي سفينة ألفاً للرجال وألفاً للأزورد، واستخلفني وسافر بنفسه ليعلم حقيقة ذلك، فكان آخر العهد به وبمن معه. قال في العبر: وكان حجه في سنة أربع وعشرين وسبعمائة في الأيام الناصرية محمد بن قلاوون.
قال في مسالك الأبصار: قال لي المهمندار خرجت لمتلقاه من جهة السلطان فأكرمني إكراماً عظيماً، وعاملني بأجمل الأداب، ولكنه كان لا يحدثني إلا بترجمان مع إجادته اللسان العربي. قال: ولما قدم، قدم للخزانة السلطانية حملاً من التبر؛ ولم يترك أميراً ولا رب وظيفة سلطانيةٍ إلا وبعث إليه بالذهب وكنت أحأوله في طلوع القلعة للاجتماع بالسلطان حسب الأوامر السلطانية فيأبى خشية تقبيل الأرض للسلطان ويقول: جئت للحج لا لغيره، ولم أزل به حتى وافق على ذلك.
فلما صار إلى الحضرة السلطانية. قيل له: قبل الأرض، فتوقف وأبى إباءً ظاهراً.
وقال: كيف يجوز هذا؟ فأسر إليه رجلٌ كان إلى جانبه كلاماً- فقال: أنا أسجد لله الذي خلقني وفطرني ثم سجد، وتقدم السلطان، فقام له بعض القيام وأجلسه إلى جانبه وتحدثا طويلاً، ثم قام السلطان موسى فبعث إليه السلطان بالخلع الكاملة له ولأصحابه، وخيلاً مسرجة ملجمة. وكانت خلعته طرد وحش بقصب كثير، بسنجاب مقندس، مطرز بزركش، على مفرج إسكندري، وكلوتة زركش، وكلاليب ذهب، وشاش بحرير، ورقم خليفتي، ومنطقة ذهب مرصعة، وسيف محلى، ومنديل مذهب خز، وفرسين مسرجين ملجمين بمراكب بغل محلاةً وأعلام، وأجرى عليه الأنزال والأقامات الوافرة مدة مقامه.
ولما آن أوان الحج بعث إليه بمبلعٍ كبير من الدراهم، وهجن جليلة كاملة الأكوار والعدة لمركبه، وهجن أتباع لأصحابه وأزوادٍ جمة، وركز له العليق في الطرق، وأمر أمير الركب بإكرامه واحترامه.
ولما عاد، بعث إلى السلطان من هدية الحجاز تبركاً، فبعث إليه بالخلع الكاملة له ولأصحابه، والتحف والألطاف، من البز السكندري والأمتعة الفاخرة، وعاد إلى بلاده.
وذكر عن ابن أمير حاجب والي مصر أنه كان معه مائة حمل ذهباً أنفقها في سفرته تلك على من بطريقه إلى مصر من القبائل ثم بمصر، ثم من مصر إلى الحجاز توجهاً وعوداً حتى احتاج على القرض، فاستدان على ذمته من تجار مصر بمالهم عليه فيه المكاسب الكثيرة، بحيث يصل لأحدهم في كل ثلثمائة دينار سبعمائة دينار ربحاً. وبعث إليهم بذلك بعد توجهه إلى بلاده.
قال في العبر ويقال: إنه كان يحمل آلته اثنا عشر ألف وصيفةٍ لابسات أقبية الديباج.
قال في مسالك الأبصار: وذكر لي عنه ابن أمير حاجب: أنه حكى له أن من عادة أهل مملكته أنه إذا نشأ لأحدٍ منهم بنت حسناء، قدمها له أمةً موطوءةً، فيملكها بغير تزويج مثل ملك اليمن- فقلت له: إن هذا لا يحل لمسلم شرعاً- فقال: ولا الملوك؟- فقلت: ولا للملوك واسأل العلماء. فقال: والله ما كنت اعلم ذلك! وقد تركته من الآن.
قال في العبر: ودام ملكه عليهم خمساً وعشرين سنة ومات.
فملك بعده ابنه منسا مغا ومعنى مغا عندهم محمد، يعنون السلطان محمداً، ومات لأربع سنين من ولايته.
وملك بعده أخوه منسا سليمان بن أبي بكر، وهو أخو منسا موسى المقدم ذكره.
قال في مسالك الأبصار: واجتمع له ما كان أخوه افتتحه من بلاد السودان وأضافه إلى يد الإسلام، وبنى به المساجد والجوامع والمنارات، وأقام به الجمع والجماعات والأذان، وجلب إلى بلاده الفقهاء من مذهب الأمام مالك رضي الله عنه، وتفقه في الدين.
قال في العبر: ودام ملكه أربعاً وعشرين سنةً، ثم مات.
ولي بعده ابنه قنبتا بن سليمان ومات لتسعة أشهر من ملكه.
وملك بعده ماري جاظه بن منسا مغا بن منسا موسى فأقام أربع عشرة سنة أساء فيها السيرة، وأفسد ملكهم، وأتلف ذخائرهم بسرفه وتبذيره، حتى انتهى به الحال في السرف أنه كان بخزائنهم حجر ذهبٍ، زنته عشرون قنطاراً منقولاً من المعدن من غير سبك ولا علاج بالنار.
وكانوا يرونه من أنفس ذخائهم لندور وجود مثله في المعدن، فباعه على تجار مصر المترددين إليه بأبخس ثمن، وصرف ذلك كله في الفسوق، وكان آخر أمره أن أصابته علة النوم وهو مرضٌ كثيراً ما يصيب أهل تلك البلاد لا سيما الرؤساء منهم، يأخذ أحدهم النوم حتى لا يكاد يفيق، فأقام به سنتين حتى مات سنة خمس وسبعين وسبعمائة.
وملك بعده ابنه موسى فنكب عن طريق أبيه، وأقبل على العدل وحسن السيرة.
وتغلب على دولته وزيره ماري جاظه فحجره وقام بتدبير الدولة، وكان له فيها أحسن تدبير، وبقي منسا موسى حتى مات سنة تسع وثمانين وسبعمائة.
وملك بعده أخوه منسا مغا وقتل بعده بسنة أو نحوها.
ولمك بعده صندكي زوج أم موسى المقدم ذكره، ومعنى صندكي الوزير، ووثب عليه بعد أشهر رجلٌ من بيت ماري جاظة.
ثم خرج من ورائهم من بلاد الكفرة رجل اسمه محمود ينسب إلى منساقو بن منسا ولي، بن ماري جاظة، ولقبه منسا مغا، وغلب على الملك في سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة.
قال في التعريف: وصاحب التكرور هذا يدعي نسباً إلى عبد الله بن صالح، بن الحسن، بن علي بن أبي طالب كرم الله وجوههم.
قلت: هو صالح ابن عبد الله بن موسى، بن عبد الله أبي الكرام، بن مسوى الجون، بن عبد الله، بن حسن المثنى، ابن الحسن السبط، ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقد ذكر في تقويم البلدان: أن سلطان غانة يدعي النسب إلى الحسن ابن علي عليهما السلام.
فيحتمل أنه أراد صاحب هذه المملكة لأن من جملة من هو في طاعته غانة، أو من كان بها في الزمن القديم قبل استيلاء أهل الكفر عليها.
الجملة الخامسة في أرباب الوظائف بهذه المملكة:
قد ذكر في مسالك الأبصار: أن بهذ المملكة: الوزراء، والقضاة، والكتاب، والدوواين، وأن السلطان لا يكتب شيئاً في الغالب، بل يكل كل أمر إلى صاحب وظيفته من هؤلاء فيفصله. وكتابهم بالخط العربي على طريقة المغاربة.
الجملة السادسة في عساكر سلطان هذه المملكة وأرزاقهم:
أما مقدار العساكر، فقد ذكر الشيخ سعيد الدكالي: أن مقدار عسكره مائة ألف نفر، منهم خيالة نحو عشرة الأف فارس، وباقيهم رجالة لا خيل لهم.
وأما الأقطاعات لأمراء هذا السلطان وجنده والأنعامات عليهم. فقد قال الدكالي: إن من أكابرهم من يبلغ جملة ماله على الملك في كل سنة خمسين ألف مثقال من الذهب، وأنه يتفقدهم مع ذلك بالخيل والقماش، وإن همته كلها في تحميل زيهم وتمصير مدنهم.
الجملة السابعة في زي أهل هذه المملكة:
قال الدكالي لباسهم عمائم بحنك مثل الغرب، وقماشهم بياضٌ من ثياب قطن تنسج عندهم في نهاية الرقة واللطف تسمى الكمصيا ولبسهم شبيه بلبس المغربة جبابٌ ودراريع بلا تفريج والأبطال من فرسانهم تلبس أساور من ذهب، فمن زادت فروسيته لبس معها أطواقاً من ذهب فإن زادت لبس مع ذلك خلاخل من ذهب، وكلما زادت فروسية البطل ألبسه الملك سراويل متسعة وسراويلاتهم ضيقة أكمام الساقين متسعة الشرج، وأهل هذه المملكة يركبون بالسروج وهم في غالب أحوالهم في الركوب كأنهم من العرب، إلا أن هؤلاء يبدأون في الركوب بأرجلهم اليمنى بخلاف غيرهم من سائر الناس جميعاً، ولا يعرف عندهم ركوب جمل بكور.
الجملة الثامنة في ترتيب هذه المملكة:
أما جلوس السلطان في قصره فإنه يجلس على مصطبة كبيرة، على دكة كبيرة من آبنوس، كالتخت على قدر المجلس العظيم المتسع، عليها أنياب الفيلة في جميع جوانبها، الناب إلى الناب، وعنده سلاحٌ له من ذهب كله: سيفٌ، ومزراق، وقوس، وتركاش، ونشاب، وعليه سراويل كبير، مفصل من نحو عشرين نصفية، لا يلبس مثله أحدٌ منهم، بل هو من خصوصيته، ويقف خلفه نحو ثلاثين مملوكاً من الترك وغيرهم ممن تبتاع له من مصر، بيد واحد منهم جتر من حرير عليه قبة، وطائرٌ من ذهب صفة بازي يحمل على يساره، وأمراؤه جلوس حوله يميناً وشمالأ، ثم دونهم أعيانٌ من فرسان عسركه جلوس، وبين يديه شخص يغني له وهو سيافه، وآخر سفيرٌ بينه وبين الناس يسمى الشاعر، وتهى إليه الشكاوي والمظالم فيفصلها بنفسه، ولا يكتب شيئاً في الغالب، بل يأمر بالقول بلسانه، وحجوله أناسٌ بأيديهم طبول يدقون بها، وأناس يرقصون وهو يضحك منهم، وخلفه صنجقان منشوران، وأمامه فرسان مشدودان محصلان بركوبه متى أحب، ومن عطس في مجلسه ضرب ضرباً مؤلماً، لا يسامح أحدٌ في مثل ذلك، فإن بغت أحداً منهم العطاس، انبطح في الأرض وعطس حتى لا يعلم به.
أما الملك فإنه إذا عطس ضرب الحاضرون بأيديهم على صدورهم. ولا يدخل أحد دار السلطان منتعلاً كائناً من كان، ومن لم يخلع نعليه قتل بلا عفو: عامداً كان أو ساهياً، وإذا قدم عليه أحدٌ من أمرائه أو غيرهم، وقف أمامه زماناً، ثم يومي القادم بيده اليمنى مثل من يضرب الجوك ببلاد توران وإيران من بلاد المشرق.
وصفة ذلك أنه يكشف مقدم رأسه ويرفع الذي يضرب الجوك يده اليمنى إلى قريب أذنه، ثم يضعها وهي قائمة منتصبةٌ، ويلقيها بيده اليسرى مبسوطة فوق فخذه، واليد اليسرى مبسوطة الكف لتلقي مرفق اليمنى مبسوطة الكف مضمومة الأصابع بعضها إلى جانب بعض كالمشط، تمكاس شحمة الأذن.
قال ابن أمير حاجب: وقد رأيت هذا عند خدمتهم للسلطان، موسى لما قدم الديار امصرية. فإذا أنعم على أحدٍ بإنعام أو وعده وعداً جميلاً أو شكره على فعل، تمرغ المنعم عليه بين يديه من أول المكان إلى آخره، فإذا وصل إلى آخر المكان، أخذ غلمان المنعم عليه أو من هو من أصحابه من رمادٍ يكون موضوعاً في آخر مجلس الملك معداً لهذا الشأن، فيذر في رأس المنعم عليه، ثم يعود وتمرغ، إلى أن يصل بين يدي الملك، ويضرب جوكاً آخر بيده ثم يقوم.
وأما في الركوب فقد جرت عادة سلطان هذه المملكة أنه إذا قدم من سفر أن يحمل على رأسه الجتر راكبٌ، وينشر على رأسه علم، وتضرب أمامه الطبول، والطنابير، والبوقات بقرون لهم فيها صناعة محكمة.
قال ابن أمير حاجب: وشعار هذا السلطان أعلامٌ وألويةٌ كبار جداً، ورنكه أصفر في أرض حمراء.
وأما غير ذلك من سائر أموره، فقد ذكر الشيخ سعيد الدكالي: أن من عادة هذا السلطان أنه إذا عاد إليه أحدٌ ممن بعثه في شغل له أو أمر مهم أن يسأله عن كل ما حدث له من حين مفارقته له وإلى حين عوده مفصلاً.
قال ابن أمير حاجب: وقد رأيت السلطان موسى وهو بمصر لا يأكل إلا منفرداً وحده، لا يحضره عند الأكل أحد البتة.
المملكة السادسة من مماليك بلاد السودان مملكة الحبشة بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة والشين المعجمة وهاء في الآخر.
وهي مملكة عظيمة جليلة المقدار، متسعة الأجاء، فسيحة الجوانب.
قال في مسالك الأبصار: وأرضها صعبة المسالك: لكثرة جبالها الشامخة، وعظم أشجارها، واشتباك بعضها ببعض، حتى إن ملكها إذا أراد الخروج إلى جهة من جهاتها، تقدمه قوم مرصدون لإصلارح الطرق بالأتٍ لقطع الأشجار وإحراقها بالنار.
وقال: وهم قومٌ كثيرٌ عددهم، ولم يملك بلادهم غيرهم من النوع الأنساني، لأنهم أجبر بني حام، وأخبر بالتوغل في القتال والأقتحام، طول زمنهم في الأسفار، وصيد الوحش، وقتالهم إنما يكون عرياً من غير لأمة تدفع عنهم ولا عن خيلهم.
ثم وصفهم بعد ذلك بأوصاف لولا ماهم عليه من الشرك لكانوا في الرتبة العليا من مراتب بني آدم: فذكر أن المشهور عنهم مع ما هم عليه من المجاعة أنهم يقبلون الحسب ويصفحون عن الجرائم، ومن عادتهم أن من رمى سلاحه في القتال حرم قتاله، ويكرمون الضيف، ولا ينقض الصديق منهم عهد صديقه، وإذا أحبوا أزهروا المحبة، وإذا أبغضوا أظهروا البغض، والغالب عليهم الذكاء والفطنة وصدق الحدس، ولهم علومٌ وصناعات خاصة بهم، ولهم قلم يكتبون به من المين إلى الشمال كما هي في العربي، عدة حروف ستة عشر حرفاً، لكل حرف منها سبعة فروع، فيكون عدتها مائة واثنتين وثمانين حرفاً، سوى حروفٍ أخر مستقلة بذاتها لا تفتقر إلى حرف من الحروف المذكورة، مضبوطة بحركاتٍ نحوية متصلةٍ بالخط لا منفصلة عنه.
ومع كونهم جنساً واحداً فلغاتهم تزيد على خمسين لساناً، ويميل الكثير من ألوانهم إلى الصفاء، ولكل طائفة منهم وسم في وجوههم يعبر عنه بالتعليط، بعضهم يسم في الخدين وسماً خفيفاً، وأمحرا يسمون في الخدين والجبهة إلى الأنف خطوطاً طوالأ.
ويقال: أن أول بلادهم من الجهة الغربية بلاد التكرور مما يلي جهة اليمن، وأولها من الجهة الشرقية المائلة إلى بعض الجهات الشمالية بحر الهند واليمن، وفيها يمر النهر المسمى سيحون الذي يرفد منه نيل مصر.
وقد عد منها أحد عشر إقليماً من جهة الغرب بمفازة بمكان يسمى وادي بركة يتوصل منه إلى إقليم يسمى سحرت ويسمى قديماً تكراي، وكان به في الزمن القديم مدينةٌ اسمها احسرم بلغة أخرة من لغاتهم، وتسمى أيضاً زرفرتا.
بها كان كرسي ملك النجاشي، وكان مستولياً على إقليم الحبشة.
ويليه من جهة الشرق إقليم أمحرا الذي به الآن مدينة المملكة، ثم إقليم شاوة، ثم إقليم داموت، ثم إقليم لامنان، ثم إقليم السهيو، ثم إقليم الزلح، ثم إقليم عدل الأمراء، ثم إقليم حماسا، ثم إقليم باريا، ثم إقليم الطراز الإسلامي.
قال: وبها أقاليم كثيرة العدد مجهولة الأسماء، غير مشهورة ولا معلومة.
ثم هي على قسمين:
القسم الأول: بلاد النصرانية:
وهي القسم الأوفر عدداً، الأوسع مجالا، وهو الذي يملكه ملك أمحرا بفتح الألف وسكون الميم وفتح الحاء والراء المهملتين وألف في الآخر. وهم جنس من الحبشة.
ويشتمل على ست جمل:
الجملة الأولى في ذكر قواعدها:
وقاعدتها مدينة مرعدي بفتح الميم وكسر الراء وسكون العين وكسر الدال المهملتين وياء مثناة تحت في الآخر. وهي مدينةٌ بإقليم أمحرا المقدم ذكره فيما ذكره في مسالك الأبصار إلا أنه لم يذكر صفتها، والذي ذكره في تقويم اليلدان: أن قاعدة الحبشة مدينة جرمي بالجيم المفتوحة والراء المهملة الساكنة ثم ميم مكسورة ثم ياء مثناة تحتية في الآخر كما ضبطه ابن سعيد. وموقعها في الإقليم الأول من الأقاليم السبعة. قال في الأطوال: حيث الطول خمسٌ وخمسون درجة، والعرض تسع درج وثلاثون دقيقة. قال في تقويم البلدان: وهي مدينة ذكرها أكثر المصنفين في كتب المسالك والممالك والأطوال والعروض، وأنها كرسي مملكة الحبشة وقاعدتهم، ولم يزد على ذلك، فيحتمل أنها قاعدة قديمة، ويحتمل أنها القاعدة المستقرة.
الجملة الثانية في الموجود بها:
قد ذكر في مسالك الأبصار: أن بها من المواشي ذوات الأربع: الخيل، والبغال، والبقر، والغنم وما في معناها، وأغنامهم تشبه أغنام عيذاب واليمن. ومن الوحوش الأسد، والنمر، والفهد، والفيل، والزرافة، والغزال، وبقر الوحش، وحمار الوحش، والقردة، وغيرهما من الوحوش.
وبها من الطيور الجوية: الصقورة، والبزاة بكثرة، والنسور البيض والسود، والغراب، والحجل، وطير الواجب بجملته، والحمام، والعصفور، وغير ذلك مما لم يوجد بالديار المصرية. ومن الطيور البرية دجاج الحبش وأمثالها. ومن الطيور المائية البط، وعندهم بنهرهم سمك يشبه البوري، وسمك يشبه الثعبان، يطول إلى مقدار ذارعين، ونصف، ويغلط إلى مقدار كبار الخشب، وبنهرهم أيضاً التمساح وفرس البحر، وغير ذلك.
وبها من الحبوب: الحنطة، والشعير، والحمص، والعدس، والبسلا، والذرة، وبعض الباقلاء، وحبوب أخرى غير ذلك منها حب يسمى قنابهول يستعملونه قوتاً كالحنطة. والحنطة عندهم على مثال الحنطة الشامية، والشعير حبة عندهم أكبر من حب الشعير المصرية والشامية، ومنه ضربٌ يسمى طمجة. ولون الحمص عندهم إلى الحمرة. والباسلاً عندهم عزيز الوجود في أكثر البلاد، ولكنهم لايفتقرون إليه للعلف لكثرة المراعي ببلادهم.
وعندهم حب يسمى طافي على قدر الخردل، ولونه إلى الحمرة، ومكسره إلى السواد، يتخذون منها الخبز. وعندهم ببعض الأقاليم حب شبيه بالحنطة إلا أن له قشرين، ينزع قشره بالهرس كالأرز، ويتخذون منه طعاماً يكون مغنياً عن الحنطة.
وعندهم بزر الكتان وحب الرشاد، وهم يزرعون على المطر في كل سنةٍ مرتين: مرة في الصيف، ومرة في لشتاء، تتحصل في كل مرة الغلات.
ونقل البطرك بنيامين أنه يقع عندهم المطر الكثير، وتحصل من المطر الصواعق العظيمة.
وعندهم من أصناف المقاثيء القرع، وفي بعض الأقاليم بطيخ صغير.
وعندهم من البقول: الثوم، والبصل، والكزبرة الخضراء، ومن الرياحين الريحان، والقرنفل، ونبات أبيض يسمى بعتران، وعندهم الياسمين البري، ولكنه ليس بمشمومٍ لهم.
وعندهم من الفواكه العنب الأسود على قلة، والتين الوزيري، وأصناف الحوامض خلا النارنج.
وعندهم شجر يسمى جان بجيم بين الجيم والشين لا ثمر له، وإنما له قلوب تشبه قلوب النارنج تؤكل فتزيد في الذكاء والفهم، وتفرح، إلا أنها تقلل الأكل، والنوم، والجماع. وعنايتهم به عناية أهل الهند بالتنبل وإن كان بينهما مباينةٌ. وأي نفعٍ فيما فائدته تقليل النوم والأكل والجماع، التي هي لذات الدنيا، حتى يحكى أنه وصف لبعض ملوكم اليمن- فقال: أنا لا يذهب متحصل ملكي إلا على هذه الثلاث، فكيف أسعى في ذهابها بأكل هذا؟ ومن أشجارهم الزيتون، والصنوبر، والجميز، وفي بعض بلادهم الأبنوس، وفي بعضها المقل، وفي بعضها القنا المجوف والمسدود. ومأكلهم شحوم البقر والمعز، وبعض شحوم البقر والمعز، وبعض شحوم الضأن، ومشروبهم اللبن البقري، وفي ضعفهم يتداوون باللبن المداف بالماء وسمن البقر.
وعندهم عسل النحل بكثرة في جميع الأقاليم، تختلف ألوانه باختلاف المراعي: منه ما يوجد في الجبال فيؤخذ من غير حجر على أخذه. ومنه ماله خلايا من خشب منقورةٌ، له ملاك يختصون به، ووقود مصابيحهم شحوم البقر. أما الزيت الطيب فيجلب إليهم. وادهانهم بالسمن. وأواني طعامهم فخار مدهون أسودٌ. واغتسالهم بالماء البارد، وربما استعملوا الحار منه.
وحكى البطرك بنيامين أن عندهم من المعادن معدن الذهب، ومعدن الحديد.
وحكي عن الشريف عز الدين التاجر: أن في بعض بلادهم يوجد معدن الفضة. ومصاغهم الذهب، والفضة، والنحاس، والرصاص، كل أحد منهم بحسبه.
الجملة الثالثة في ذكر معاملاتهم وأسعار بلادهم:
أما معاملاتهم، فقد ذكر في مسالك الأبصار أن معاملتهم مقايضةٌ بالأبقار والأغنام والحبوب وغير ذلك. وأما الأسعار فالقمح والشعير اللذان هما أصل المطعومات ليس لهما عندهم قيمة تذكر، لاستغنتئهم عن ذلك باللحم واللبن. وسيأتي ذكر معاملة الظراز الإسلامي فيما بعد إن شاء الله تعالى.
الجملة الرابعة في ذكر زيهم وسلاحهم:
أما زيهم، فقد ذكر في المسالك أن لباسهم في الشتاء والصيف واحدٌ: لكل واحدٍ منهم ثوبان غير مخيطين: أحدهما يشد به وسطه، والأخر يلتحف به، ولا يعرفون لبس المخيط جملةً، إلا أن الخواص والأجناد يفضلون في اللبس، فيلبسون الحرير والأبراد اليمنية، والعوام يلبسون ثياب القطن على ما تقدم.
وأما سلاح المقاتلة منم، فالسيوف، والحراب، والمزاريق، والقسي، يرمون عنها بالنبل، وهو نشابٌ صغير، وربما رمى بعضهم بالنبل عن قوسٍ طويل يشبه قوس البندق، ولهم درقٌ مدورة، ودراق طوال يتقون بها.
الجملة الخامسة في ذكر بطاركة الإسكندرية الذين عن توليتهم تنشأ ولاية ملوك الحبشة:
اعلم أنه قد تقدم في المقالة الأولى في الكلام على ما يحتاج إليه الكاتب عند ذكر النحل والملل أن البطاركة عند النصارى عبارة عن خلفاء الحواريين الذين هم أصحاب المسيح عليه السلام، وأنه كان لهم في القديم أربعة كراسي: كرسي برومية: قاعدة الروم، وكرسي بالأسكندرية من الديار المصرية، وكرسي بأنطاكية: قاعدة العواصم في بلاد الشام، وكرسي ببيت المقدس. وأن كرسي رومية قد صار لطائفة الملكانية وبه بطركهم المعبر عنه بالبابا إلى الآن. وكرسي الإسكندرية قد صار آخراً لبطرك اليعاقبة تحت ذمة المسلمين بالديار المصرية من لدن الفتح الإسلامي وهلم جراً إلى زماننا. وأن كرسي بيت المقدس وكرسي أنطاكية قد بطلا باستيلاء دين الإسلام عليهما. ثم كرسي الإسكندرية بعد مصيره إلى اليعاقبة قد تبع البطرك القائم به على مذهب اليعاقبة الحبشة والنوبة وسائر متنصرة السودان، وصار لديهم كالخليفة على دين النصرانية عندهم، يتصرف فيهم بالولاية والعزل، لا تصح ولاية ملكٍ منهم إلا بتوليته، حتى قال في التعريف في الكلام على مكاتبة ملك الحبشة: ولولا أن معتقد دين النصرانية لطائفة اليعاقبة أنه لا يصح تعمد معمودي إلا بإتصال من البطريرك، وأن كرسي البطريرك كنيسة الإسكندرية، فيحتاج إلى أخذ مطران بعد مطران من عنده والأ كان شمخ بأنفه على المكاتبة، لكنه مضطرٌ إلى ذلك. قال: ولأوامر البطريرك عنده ما لشريعته من الحرمة، وإذا كتب إليه كتاباً فأتى ذلك الكتاب إلى أول مملكته، خرج عميد تلك الأرض فحمل الكتاب على رأس علم، ولا يزال يحمله بيده حتى يخرجه من أرضه وأرباب الدولة في تلك الأرض كالقسوس والشمامسة حوله مشاةٌ بالأدخنة، فإذا خرجوا من حد أرضهم تلقاهم من يليهم أبداً كذلك في كل أرض بعد أرض حتى يصلوا إلى أمحرا، فيخرج صاحبها بنفسه، ويفعل مثل ذلك الفعل الأول، إلا أن المطران هو الذي يحمل الكتاب لعظمته لا لتأبي الملك، ثم لا يتصرف الملك في أمرٍ ولا نهيٍ ولا قليلٍ ولا كثير حتى ينادي للكتاب ويجمع له يوم الأحد في الكنيسة، ويقرأ والملك واقفٌ، ثم لايجلس مجلسه حتى ينفذ ما أمره به.
ولما تعذر الوقوف على معرفة تواريخ ملوكهم، اكتفينا بذكر البطاركة الذين عنهم تنشأ ولاياتهم، فكانوا هم ملوكهم حقيقةً.
اعلم أن أول من ولي من البطاركة كنيسة الإسكندرية مرقص الأنجيلي: تلميذ بطرس الحواري، الذي أرسله المسيح عليه السلام إلى رومية. وإنما سمي بمرقص الأنجيلي لأن بطرس الحواري حين كتب إنجيله كتب بالرومية ونسبه إلى مرقص المذكور فتلقب بالأنجيلي، وأقام مرقص المذكور في بطركية الأكندرية سبع سنين يدعوا إلى النصرانية بالأسكندرية ومصر وبرقة والمغرب ثم قتله نيرون قيصر بن اقليوديش قيصر سادس القياصرة.
وولي مكانه حنانيا ويسمى بالعبرانية أنانيو ثم مات لسبع وثمانين سنة للمسيح.
وولي مكانه فلبو فأقام ثلاث عشرة سنة ثم مات.
فولي مكانه كرتيانو ومات لإحدى عشرة سنة من ولايته في أيام طرنبش قيصر.
وولي مكانه إيريمو ثنتي عشرة سنة.
ثم ولي بعده نسطس في أيام أندريانوس قيصر، وكان حكيماً فاضلاً فأقام في البطركية إحدى عشرة سنةً ثم مات.
وولي مكانه أرمانيون إحدى عشرة سنةً أيضاً ومات في أيام أندريانوس قيصر أيضاً.
وولي بعده موقيانو فلبث تسع سنين ومات في أيام أنطونيس قيصر في الخامسة من ملكه.
وولي بعده كلوتيانو فأقام أربع عشرة سنةً في أيام أنطونيس قيصر ومات.
وولي بعده أغريتوس فبقي اثنتي عشرة سنة ومات.
وولي بعده يليانس في أيام أوراليانس قيصر فلبث عشر سنين ومات.
فولي مكانه في أيام أوراليانس ديمتريوس فأقام ثلاثاً وثلاثين سنةً.
وولي بعده تاوكلا فأقام ست عشرة سنةً ومات.
فولي بعده دونوشيوش فلبث تسع عشرة سنةً ومات.
وولي مكانه مكسيموس فأقام ثنتي عشرة سنةً ومات.
وولي مكانه ثاونا فلبث عشر سنين ومات وكان النصارى إذ ذاك يقيمون الدين خفيةً فلما صار بطركاً صانع الروم ولاطفهم بالهدايا فأذنوا له في بناء كنيسة مريم، وأعلنوا فيها الصلاة.
ثم ولي بعده بطرس فلبث عشر سنين وقتله ديقلاديانوس قيصر.
وولي مكانه تلميذه اسكندروس وكان كبير تلامذته فلبث ثلاثاً وعشرين سنةً. وقيل ثنتين وعشرين سنة، وقيل ست عشرة سنة، وكسر صنم النحاس الذي كان في هيكل زحل بالأسكندرية وبنى مكانه كنيسةً، وبقيت حتى هدمها العبيديون عند ملكهم الإسكندرية، ومات لإحدى وعشرين سنة من ملك قسطنطين ملك الروم.
وولي مكانه تلميذه ايناسيوس ووثب عليه أهل إسكندرية ليقتلوه لانتحاله مذهباً غير مذهبهم فهرب.
وتولى مكانه لوقيوش ثم رد ايناسيوس المتقدم ذكره إلى كرسيه بعد خمسة أشهر وطرد لوقيوس، وأقام ايناسيوس بطركاً إلى أن مات.
فتولى بعده تلميذه بطرس سنتين ووثب عليه أصحاب لوقيوس فهرب ورد لوقيوس إلى كرسيه، فأقام ثلاث سنين، ثم وثبوا عليه وردوا بطرس ومات لسنة من إعادته، وقيل حبس وأقيم مكانه أريوس من أهل سميساط.
ثم ولي طيماناواس أخو بطرس، فلبث فيهم سبع سنين ومات. ويقال إن ايناسيوس المتقدم ذكره رده إلى كرسسيه ثم مات.
فولي مكانه كاتبه تاوفينا فأقام سبعاً وعشرين سنة ومات.
وتولى مكانه كيرلس ابن أخته فأقام اثنتين وثلاثين سنة ومات.
فولي مكانه ديسقرس فأحدث بدعةً في الأمانة التي يعتقدونها فأجمعوا على نفيه.
وولوا مكانه برطارس وافترقت النصارى من حينئذ إلى يعقوبية وملكانية.
ووثب أهل الإسكندرية على برطارس البطرك فقتلوه لست سنين من ولايته وأقاموا مكانه طيماناوس وكان يعقوبياً، وهو أول من ولي البطركية من اليعاقبة، بالأسكندرية فأقام فيها ثلاث سنين ثم جاء قائد من القسطنطينية فنفاه وأقام مكانه سوريس من الملكية. فأقام تسع سنين.
ثم عاد طيماناوس المتقدم ذكره إلى كرسيه بأمر لاون قيصر. ويقال أنه بقي في البطركية اثنتين وعشرين سنةً ومات.
فولي مكانه بطرس وهلك بعد ثمان سنين.
وولي مكانه اثناسيوس وهلك لسبع سنين، وكان قيماً ببعض البيع في بطركية بطرس ومات.
فولي مكانه يوحنا وكان يعقوبياً، ومات بعد سبع سنين.
وولي مكانه يوحنا الحبيس ومات بعد إحدى عشرة سنةً.
فولي مكانه ديسقرس الجديد ومات بعد سنتين ونصف.
ثم ولي مكانه طيماناوس وكان يعقوبياً، فمكث فيهم ثلاث سنين، وقيل سبع عشرة سنة، ثم نفي.
وولي مكانه بولص وكان ملكياً فلم تقبله اليعاقبة، وأقام على ذلك سنيتن.
ثم ولى قيصر قائداً من قواده اسمه أثوليناريوس فدخل الكنيسة على زي الجند. ثم لبس زي البطاركة وحملهم على رأي اليعقوبية، وقتل من امنتع وكانوا مائتين، ومات لسبع عشرة سنة من ولايته.
وولي مكانه يوحنا وهلك لثلاث بسنين.
وانفرد اليعاقبة بالأسندرسة وكان أكثرهم القبط وقدموا عليهم طودوشيوش بطركاً، فمكث فيهم ثنتين وثلاثين سنةٌ.
ثم جعل الملكية بطركهم داقيانوس وطردوا طودوشيوش عن كرسيه ستة أشهر، ثم أمر قيصر بأن يعاد فأعيد، ثم نفاه بعد ذلك.
وولى مكانه بولس التنيسي فلم يقبله أهل الإسكندرية ولا ما جاء به، ثم مات وغلقت كنائس القبط اليعقوبية، ولقوا شدة من الملكية، ومات طودوشيوش الذي كان قد نفي.
وتولى البطركية بطرس ومات بعد سنتين.
وولي مكانه داميانو فمكث ستاً وثلاثين سنةٌ، وخربت الديرة في أيامه.
ثم ولي على الملكية بالأسكدنرية ومصر يوحنا الرحوم وهو الذي عمل البيمارستان للمرضى بالأسكندرية، ولما سمع بميسر الفرس إلى مصر هرب إلى قبرس فملت بها لعشر سنين من ولايته، وخلا كرسي الملكية بعده بالأسكدنرية سبع سنين.
وكان اليعاقبة بالأسكدنرية قدموا عليهم انسطانيوس فمكث فيهم ثنتي عشرة سنة، واسترد ما كانت الملكية استولوا عليه من كنائس اليعقوبية ومات.
ثم ولي اندرانيكون بطركاً على اليعاقبة فأقام ست سنين خربت فيها الديرة، ثم مات.
وولي مكانه لأول الهجرة بنيامين فمكث تسعاً وثلاثين سنةً. وفي خلال أيامه غلب هرقل ملك الروم على مصر وملكها.
وولي أخاه منانيا بطركاً على الإسكندرية ووالياً وكان ملكياً.
ورأى بنيامين البطرك في نومه من يأمره بالأختفاء فاختفى، ثم غضب هرقل على أخيه منانيا لمعتقد في الدين فأحرقه بالنار ثم رمى بجثته في البحر، وبقي بنيامين مختفياً إلى أن فتح المسلمون الإسكندرية فكتب له عمرو بن العاص بالأمان، فرجع إلى الأسكدنرية بعد أن غاب عن كرسيه ثلاث عشرة سنة، وبقي حتى مات في سنة تسع وثلاثين من الهجرة، واستمرت البطركية بعده في اليعقوبية بمفردهم وغلبوا على مصر، وأقاموا بجميع كراسيهم أساقفةً يعاقبةً، وأرسلوا أساقفتهم إلى النوبة والحبشة فصاروا يعاقبةً.
وخلفه في مكانه أغاثوا فمكث سبع عشرة سنة، ثم مات في سنة ست وخمسين من الهجرة، وهو الذي في أيامه قد انتزعت كنائس الملكية من اليعاقبة، وولي عليهم بطرك بعد أن أقاموا من لدن خلافة عمر بغير بطرك نحواً من مائة سنة ورياسة البطرك لليعاقبة وهم الذين يبعثون الأساقفة إلى النواحي.
ومن هنا صارت النوبة ومن وراءهم من الحبشة يعاقبةً، وهو الذي بنى كنيسة مرقص وبقيت حتى هدمت أيام العادل أبي بكر بن أيوب.
وولى مكانه بطرك اسمه يوحنا.
ثم ولي البطركية بعده إيساك فأقام سنيتن وأحد عشر شهراً ومات.
وكانت تقدمته في الثامنة عشرة ليوشيطان ملك الروم، وتقرر أن لا يقدم بطرك إلا يوم الأحد.
وقدم عوضه سيمون السرياني فأٌام سبع سنين ونصفاً، ومات في الرابع والعشرين من أبيب سنة أربعمائة وست عشرة للشهداء في خلافة عبد الملك بن مروان.
ويقال: إنه وصل إليه رسولٌ من الهند يطلب منه أن يقدم لهم أسقفاً وقسوساً فامتنع إلى أن يأمره صاحب مصر، فمضى إلى غيره ففعل له ذلك.
وقد بعده في البطركية الأسكندروس في سنة إحدى وثمانين من الهجرة في يوم عيد مرقص الأنجيلي سنة أربعمائة وعشرين للشهداء، فمكث أربعاً وعشرين سنة ونصفاً، وقيل خمساً وعشرين سنةً، وقاسى شدةً عظيمة، وصودر دفعتين، وأخذ منه في كل دفعى ثلاثة الأف دينار، ومات في سنة ثمان ومائة، وكانت وفاته بالأسكدنرية.
وقدم عوضه قسيماً فأقام خمسة عشرة شهراً ومات.
فقدم مكانه تادرس في سنة تسع ومائة فأقام إحدى عشرة سنةً ومات.
فقدم مكانه ميخائيل في سنة عشرين ومائة فأقام ثلاثاً وعشرين سنة ولقي شدائد من عبد الملك بن موسى نائب مروان الجعدي على مصر ثم من مروان لما دخل مصر إلى أن قتل في أبي صير وأطلق البطرك والنصارى نائب أبي العباس السفاح.
وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة رسم بإعادة ما استولى اليعاقبة من كنائس الملكية بالديار المصرية إليهم، فأعيدت وأقيم لهم بطركٌ، وكانت الملكية قد أقاموا بغير بطرك سبعاً وتسعين سنة من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين الفتح الإسلامي إلى خلافة هشام بن عبد الملك.
وفي سنة سبع وأربعين ومائة صرف أبو جعفر المنصور ميخائيل بطرك اليعاقبة، وأقام عوضه مينا فأقام تسع سنين، ومات في خلافة الهادي محمد بن المهدي.
وقدم مكانه يوحنا فأقام ثلاثاً وعشرين سنة، ومات سادس عشر طوبة سنة خمسمائة وخمس عشرة للشهداء.
ثم في سنة اثنتين وسبعين ومائة في خلافة الرشيد قدم في البطركية مرقص الجديد فأقام عشرين سنة وسبعين يوماً.
وفي أيامه رسم الرشيد بإعادة كنائس الملكية التي استولى عليها اليعاقبة ثانياً إليهم، وثارت العربان والمغاربة وخربوا الديرة بوادي هبيب ولم يبق فيها من الرهبان إلا اليسير ثم مات في سنة إحدى عشرة ومائتين.
وقدم عوضه في البطركية يعقوب قيل في السنة الثالثة من خلافة المأنون.
وفي أيامه عمرت الديارات وعادت الرهبان إليها، ومات في سنة اثنتين وعشرين ومائتين.
وقدم عوضه سيماون في السنة المذكورة في خلافة المعتصم فأقام سنة واحد.
وقبل سبعة شهور وستة عشر يوماً. وخلا الكرسي بعده بسنة واحدةً وتسعة وعشرين يوماً.
وفي سنة سبع وعشرين ومائتني قدم في البطركية بطرس ويقال يوساب وكانت تقدمته في دير بومقار بوادي هبيب حادي عشري هاتور سنة خمسمائة وسبعة وأربعين للشهداء.
وقيل إنه قدم في أيام المأمون، وإنه أقام ثماني عشرة سنة، وسير أساقفة إلىأفريقية والقيروان، ومات سنة اثنتين وأربعين ومائتين، وخلا الكرسي بعده ثلاثين يوماً.
وقد عوضه جاتيل في السنة العاشرة من خلافة المتوكل.
ويقال: إنه كان قساً بدير بوحنس، فأقام سنة واحدةً وخمسة أشهر، ثم مات ودفن بدير بومقار، وهو أول من دفن فيه من البطاركة. وخلا الكرسي بعده أحداً وثمانين يوماً.
وقدم عوضه قسيماً في سنة أربع وأربعين ومائتين من الهجرة، وهي الثانية عشرة من خلافة المتوكل، وكان شماساً بدير بومقار، فأقام سبع سنين وخمسة شهور ثم مات ودفن بدنوشر، وخلا الكرسي بعده أحداً وخمسين يوماً.
وقدم مكانه بطرك اسمه اساسو ويقال سالوسو في أول سنة من خلافة المعتز وأحمد بن طولون بمصر، فأقام إحدى عشرة سنة وثلاثة أشهر ومات، وهو الذي عمل مجاري المياه التي تجري تحت الأرض من خليج الإسكندرية إلى آدرها.
ولما مات قدم مكانه ميخائيل في خلافة المعتمد في سنة ثلاث وستين ومائتين، فأقام خمساً وعشرين سنةً.
وصادره أحمد بن طولون في عشرين ألف دينار، فباع في المصادرة رباع الكنائس بالأسكندرية، وبركة الحبش بظاهر مصر، ومات.
فبقي الكرسي بعده أربع عشرة سنة شاغراً إلى سنة ثلثمائة. وفي يوم الأثنين ثالث شوال سنة ثلثمائة احترقت الكنيسة العظمى بالأسكندرية التي كانت بنتها كلابطره ملكة مصر هيكلاً لزحل.
ثم قدم البطرك غبريال في السنة السابعة من خلافة المقتدر، وهي سنة إحدى وثلثمائة، فأقام إحدى عشرة سنة ومات.
فقدم مكانه البطرك قسيماً فأقام اثنتي عشرة سنة ومات. وفي السنة الأخيرة من رياسته وهي سنة ثلاث عشرة وثلثمائة أحرق المسلمون كنيسة مريم بدمشق ونهبوا ما فيها وتتبعوا كنائس اليعاقبة والنساطرة.
ولما مات قسيماً المذكور قدمو عليهم بطركاً عليهم لم أقف على اسمه، فأقام عشرين سنة، ثم مات..
وقدم في البطركية تاوفانيوس من أهل اسكدنرية في السنة الحادية عشرة من خلافة المطيع فأقام أربع سنين وستة أشهر، ومات مقتولاً في سنة ثمان وأربعين وثلثمائة.
وقدم مكانه البطرك مينا في السنة الخامسة عشرة من خلافة المطيع والأخشيد نائب مصر، فأقام إحدى عشرة سنة ثم مات. وخلا كرسي اليعاقبة بعد موته سنةً واحدة.
ثم قدم مكانه بطرك اسمه أفراهام السرياني في سنة ست وستين وثلثمائة، فأقام ثلاث سنين وستة أشهر، ومات في أيام المعز الفاطمي بمصر مسموماً من بعض كتاب النصارى: لإنكاره عليه التسري، وقطعت يد ذلك الكاتب بعد موته، ومات لوقته. وخلا الكرسي بعده ستة أشهر.
وقدم عوضه بطرك اسمه فيلاياوس في سنة تسع وستين وثلثمائة. وقيل في السنة الخامسة للعزيز الفاطمي فأقام أربعاً وعشرين سنةً وسبعة أشهر ومات.
وقدم بعده بطركٌ اسمه دخرديس في سنة ثلاث وتسعين وثلثمائة في أيام الحاكم الفاطمي، فأقام ثماناً وعشرين سنة، ثم مات ودفن ببركة الحبش.
وخلا كرسي اليعاقبة بعده أربعة وسبعين يوماً. ثم قدم اليعاقبة بعده سأبونين بطركاً في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة، فأقام خمس عشرة سنة ومات، فخلا الكرسي بعده سنة وخمسة أشهر.
ثم قدم بعده بطرك اسمه اخرسطوديس في سنة سبع وثلاثين وأربعمائة في خلافة المستنصر الفاطمي، فأقام ثلاثين سنة، ومات في السنة الحادية والأربعين من خلافة المستنصر المذكور بالكنيسة المعلقة بمصر.
وهو الذي جعل كنيسة بومرقورة بمصر وكنيسة السيدة بحارة الروم بطركية. وخلا الكرسي بعده اثنين وسبعين يوماً.
ثم قدم بعده البطرك كيرلص فأقام أربع عشرة سنة وثلاثة أشهر ونصفاً، ومات بكنيسة المختارة بجزيرة مصر سلخ ربيع الآخر سنة خمس وثمانين وأربعمائة. وخلا الكرسي بعده مائة وأربعة وعشرين يوماً.
وقدم عوضه بطرك اسمه ميخائيل في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، في أيام المسنتصر الفاطمي صاحب مصر، وكان قبل ذلك حبيساً بسنجار، فأقم تسع سنين وثمانية أشهر، ومات في المعلقة بمصر.
وقدموا عوضه بطركاً اسمه مقاري سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة بدير بومقار، ثم كمل بالأسكندرية، وعاد إلى مصر وقدس بدير بومقار ثم في الكنيسة المعلقة، وفي أيامه هدم الأفضل بن أمير الجيوش كنيسةً بجزيرة مصر كانت في بستان اشتراه.
ولما مات قدم عوضه بطرك اسمه غبريال أبو العلا صاعد، سنة خمس وعشرين وخمسمائة في أيام الحافظ الفاطمي، وكان قبل ذلك شماساً بكنيسة بومرقورة، فقدم بالمعلقة، وكمل بالأسكدنرية، فأقام أربع عشرة سنة، ومات بكنيسة بومرقورة، وخلا الكرسي بعده ثلاثة أشهر.
وقدم بعده بطرك اسمه ميخائيل بن التقدوسي في السنة الخامسة عشرة من خلافة الحافظ أيضاً؛ وكان قبل ذلك راهباً بقلاية دنشري، قدم المعلقة وكمل بالأسكندرية، ومات بدير بومقار في رابع شوال سنة إحدى وأربعين وخمسمائة. وخلا الكرسي بعده سنةً واحدة وسبعين يوماً.
وقدم عوضه بطرك اسمه يونس بن أبي الفتح بالمعلقة بمصر وكمل بالأسكندرية، فأقام تسع عشرة سنة، ومات في السابع والعشرين من جمادى الأخرة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وخلا الكرسي بعده ثلاثة وأربعين يوماً.
وقدم بعده بطرك اسمه مرقص أبو الفرج بن زرعة في سنة إحدى وستين وخمسمائة بمصر وكمل بالأسكدنرية، فأقام اثنتين وعشرين سنة وستة أشهر وخمسة وعشرين يوماً، وفي أيامه أحرقت كنيسة بومرقورة بمصر، ثم مات. وخلا الكرسي بعده سبعة وعشرين يوماً.
وقدم بعده بطرك اسمه يونس بن أبي غالب في عاشر ذي الحجة سنة أربع وثمانين وخمسمائة بمصر وكمل بالأسكندرية، وأقام ستاً وعشرين سنة وأحد عشر شهراً وثلاثة عشر يوماً، ومات في رابع عشر رمضان المعظم قدره، سنة اثنتي عشرة وستمائة بالمعلقة بمصر، ودفن ببركة الحبش.
وقدم بعده بطرك اسمه داود بن يوحنا، ويعرف بابن لقلق بأمر العادل بن الكامل، فلم يوافق عليه المصريون فأبطلت بطركيته، وبقي الكرسي بغير بطرك تسع عشرة سنة.
ثم قدم بطرك اسمه كيرلس داود بن لقلق في التاسع والعشرين من رمضان المعظم سنة ثلاثٍ وثلاثين وستمائة، فأقام سبع سنين وتسعة أشهر وعشرة أيام، ومات في السابع عشر من رمضان المعظم سنة أربعين وستمائة، ودفن بدير الشمع بالجيزة. وخلا الكرسي بعده سبع سنين وستة أشهر وستةً وعشرين يوماً.
وقدم بعد بطرك اسمه سيوس بن القس أبي المكارم، في رابع رجب سنة ثمان وأربعين وستمائة وكمل بالأسكندرية، أقام إحدى عشرة سنة وخمسة وخمسين يوماً، ومات في ثالث المحرم سنة ستين وستمائة. وخلا الكرسي من بعده خمسةً وثلاثين يوماً.
ثم قدم بعده في الدولة الناصرية محمد بن قلاوون البطرك بنيامين وهو الذي كان معاصراً للمقر الشهابي بن فضل الله، ونقل عنه بعض أخبار الحبشة.
ثم قدم بعده المؤتمن جرجس بن القس مفضل في شهور سنة أربع وستين وسبعمائة.
ثم قدم بعد بطرك متى وطالت مدته في البطركية ثم مات في شهور سنة اثنتي عشرة وثمانمائة.
واستقر بعده الشيخ الأمجد رفائيل في أواخر السنة المذكورة، وهو القائم بها إلى الآن.
أما ملوكهم القائمون ببلادهم فلم يتصل بنا تفاصيل أخبارهم، غير أن المشهور أن ملكهم في الزمن المتقدم كان يلقب النجاشي، سمة لكل من ملك عليهم، إلى أن كان آخرهم النجاشي الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وأسلم وكتب إليه بإسلامه، ومات وصلى عليه صلاة الغائب، ن وكان اسمه بالحبشية أصحمة، ويقال صحمة، ومعناه بالعربية عطية.
وقد ذكر المقر الشهابي بن فضل الله في مسالك الأبصار: أن الملك الأكبر الحاكم على جميع أقطارهم يسمى بلغتهم الحطي بفتح الحاء المهملة وتشديد الطاء المهملة المكسورة وياء مثناة تحت في الآخر.
ومعناه السلطان اسماً موضوعاً لكل من قام عليهم ملكاً كبيراً.
ثم قال: ويقال: إن تحت يده تسعةً وتسعين ملكاً، وهو لهم تمام المائة. وذكر أن الملك القائم بمملكتهم في زمانه اسمه عمدسيون ومعناه ركن صهيون.
وقال صهيون بيعةٌ قديمةٌ البناء بالأسكندرية معظمة عندهم. قال: ويقال: إنه من الشجاعة على أوفر قسم، وإنه حسن السيرة، عادل في رعيته.
قال في التعريف: وقد بلغنا أن الملك القائم عليهم أسلم سراً، واستمر على إظهار دين النصراينة إبقاء لملكه. فيحتمل أنه عمدسيون المقدم ذكره، ويحتمل أنه غيره، قال في التعريف: ومدبر دولته رجل يقرب إلى بني الأرشي الأطباء بدمشق.
قال في مسالك الأبصار: ومع ما هم عليه من سعة البلاد، وكثرة الخلق والأجناد، مفتقرون إلى العناية والملاحظة من صاحب مصر، لأن المطران الذي هو حاكم شريعتهم في جميع بلادهم من أهل النصراينة لا يقام إلا من الأقباط اليعاقبة بالديار المصرية، بحيث تخرج الأوامر السلطانية من مصر للبطرك المذكور وإرسال مطران إليهم. وذلك بعد تقدم سؤال ملك الحبشة الذي هو الحطي وإرسال رسله وهداياه، قال: وهم يدعون أنهم يحفظون مجاري النيل المنحدر إلى مصر، ويساعدون على إصلاح سلوكه تقرباً لصاحب مصر.
وقد ذكر ابن العميد مؤرخ النصارى في تاريخه: أنه لما توقف النيل في زمن المستنصر بالله الفاطمي، كاتن ذلك بسبب فساد مجاريه من بلادهم، وأن المستنصر أرسل البطرك الذي كان في زمانه إلى الحبشة حتى أصلحوه واستقامت مجاريه. لكن قد تقدم في الكلام على النيل عند ذكر مملكة الديار المصرية من هذه المقالة ما يخالف ذلك.
الجملة السادسة في ترتيب مملكتهم:
قال في مسالك الأبصار: يقال إن الحطي المذكور وجيشه لهم خيامٌ ينقلونها معهم في الأسفار والتنزهات، وإنه إذا جلس الملك يجلس على كرسي، ويجلس حول كرسيه أمراء مملكته وكبراؤها على كراسي من حديد: منها ما هو مطعم بالذهب، ومنها ما هو ساذج على قدر مراتبهم. قال: ويقال أن الملك مع نفاذ أمره فيهم يتثبت في أحكامه. ولم يزد في ترتيب مملكتهم على ذلك.
ولملك الحبشة هذا مكاتبةٌ عن الأبواب السلطانية بالديار المصرية، يأتي ذكرها في الكلام على المكاتبات في المقالة الرابعة إن شاء الله تعالى.
القسم الثاني من بلاد الحبشة: ما بيد مسلمي الحبشة:
وهي البلاد المقابلة لبر اليمن على أعالي بحر القلزم، وما يتصل به من بحر الهند، ويعبر عنها بالطراز الإسلامي لأنها على جانب البحر كالطراز له. قال في مسالك الأبصار: وهي البلاد التي يقال لها بمصر والشام بلاد الزيلع. قال: والزيلع إنما هي قريةٌ من قراها، وجزيرةٌ من جزائرها، غلب عليها اسمها. قال الشيخ عبد المؤمن الزيلعي الفقيه: وطولها براً وبحراً خاصاً بها نحو شهرين، وعرضها يمتد أكثر من ذلك، لكن الغالب في عرضها أنه مقفر، أما مقدار العمارة فهو ثلاثة وأربعون يوماً طولاً، وأربعون يوماً عرضاً. قال في مسالك الأبصار: وبيوتهم من طين وأحجار وأخشاب، مسقفة بجملونات وقباب، وليست بذوات أسوار ولا لها فخامة بناء، ومع ذلك فلها الجوامع، والمساجد، وتقام بها الخطب والجمع والجماعات، وعند أهلها محافظةٌ على الدين، إلا أنه لا تعرف عندهم مدرسة، ولا خانقاه، ولا رباط، ولا زاويةٌ. وهي بلادٌ شديدة الحر، وألوان أهلها إلى الصفاء، وليست شعورهم في غاية التفلفل كما هي أهل مالي وما يليها من جنوب المغرب، وفطنهم أنبه من غيرهم من السودان، وفطرهم أذكى، وفيهم الزهاد، والأبرار، والفقهاء والعلماء، ويتمذهبون بمذهب أبي حنيفة، خلاوفات فإن ملكها وغالب أهلها شافعية.
وتشتمل على ست جمل:
الجملة الأولى فيما اشتملت عليه من القواعد والأعمال:
مقتضى ما ذكره في مسالك الأبصار والتعريف أن هذه البلاد تشتمل على سبع قواعد، كل قاعدة منها مملكةٌ مستقلة بها ملكٌ مستقل.
القاعدة الأولى: وفات:
قال في تقويم البلدان: بالواو المفتوحة والفاء ثم ألف وتاء مثناة فوق في الآخر، والعامة تسميها أوفات. ويقال لها أيضاً جبرة بفتح الجيم والباء الموحدة والراء المهملة ثم هاء في الآخر، والنسبة إلى جبرة جبرتي. وموقعها بين الإقليم الأول وخط الأستواء. قال في تقويم البلدان: والقايس أنها حيث الطول سبع وخمسون درجةً، والعرض ثمان درج. قال: وعن بعض المسافرين أنها من أكبر مدن الحبشة. وهي على نشز من الأرض، وعمارتها متفرقةٌ، ودار الملك فيها على تل والقلعة على تل، ولها وادٍ فيه نهر صغير، وتمطر في الليل غالباً مطراً كثيراً، وبها قصب السكر. قال في مسالك الأبصار: وقال الشيخ عبد الله الزيلعي: وطول مملكتها خمسة عشر يوماً وعرضها عشرون يوماً بالسير المعتاد.
قال: وكلها عامرة آهلة بقرى متصلة، وهي أقرب أخواتها إلى الديار المصرية وإلى السواحل المسامتة لليمن، وهي أوسع الممالك السبع أرضاً، والأجلاب إليها أكثر لقربها من البلاد. قال في مسالك الأبصار: وعسكرها خمسة عشر ألفاً رمن الفرسان، ويتبعهم عشرون ألفاً فأكثر من الرجالة، سيأتي الكلام على سائر أحوالها عند ذكر أحوال سائر أخواتها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ومن مضافاتها زيلع. قال في تقويم البلدان: الظاهر إنها بفتح الزاي المعجمة وسكون الياء المثناة التحتية وفتح اللام ثم عينٌ مهملة في الآخر. وهي فرضة من فرض هذه البلاد، وموقعها بين الإقليم الأول وخط الأستواء. قال في القانون: حيث الطول إحدى وستون درجة، والعرض ثمان درج. قال في تقويم البلدان: وهي في جهة الشرق عن وفات وبينهما نحو عشرين مرحلةً. قال ابن سعيد: وهي مدينةٌ مشهورة وأهلها مسلمون، وهي على ركن من البحر في وطاءة من الأرض. قال في تقويم البلدان: وعن بعض من رآها أنها مدينة صغيرةٌ نحو عيذاب في القدر، وهي على الساحل والتجار تنزل عندهم فيضيفونهم ويبتاعون لهم. قال ابن سعيد: وهي شديدة الحر وماؤها عذيبي من جفارات وليس لهم بستاين، ولا يعرفون الفواكه. قال في القانون: وفيها مغاص لؤلؤ. وقد ذكر في مسالك الأبصار أنها في مملكة صاحب أوفات. وذكر في تقويم البلدان عن بعض ما رآها فيها شيوخاً يحكمون بين أهلها، وقال: إن بينها وبين عدن ومن اليمن في البحر ثلاث مجارٍ، وهي عن عدن في جهة الغرب بميلة إلى الجنوب.
القاعدة الثانية: دوارو:
بفتح الدال المهملة وواو ثم ألف وراء مهملة وواو وهي مدينة ذكرها في مسالك الأبصار والتعريف. ولم يتعرض لصفتها. وذكر في مسالك الأبصار: أنها تلي أوفات المقدمة الذكر، وأن مملكتها طولها خمسة أيام، وعرضها يومان. ثم قال: وهي على هذا الضيق ذات عسكر جم، نظير عسكر أوفات في الفارس والراجل. وسيأتي الكلام على تفصيل أحوالها مع أخواتها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
القاعدة الثالثة: أرابيني:
وهي مدينةٌ ذكرها في المسالك والتعريف أيضاً، ولم يذكر شيئاً من صفتها. ثم ذكر أن مملكتها مربعة: طولها أربعة أيام، وعرضها كذلك، وعسكرها يقارب عشرة الأف فارس. أما الرجالة فكثيرةٌ للغاية.
القاعدة الرابعة: هدية:
قال في تقويم البلدان: بالهاء والدال المهملة والياء المثناة التحتية ثم هاء في الآخر على ما ذكره بعض من رآها. ومقعها بين الإقليم الأول من الأقاليم السبعة وبين خط الأستواء. قال: والقياس أنها حيث الطول سبع وخمسون درجة، والعرض سبع درج. وذكر عن بعض المسافرين أنها جنوبي وفات. قال في مسالك الأبصار: وهي تلي أرابيني المقدم ذكرها، وطول مملكتها ثمانية أيام، وعرضها تسعة أيام، وصاحبها أقوى إخوانه من ملوك هذه الممالك السبعة. وأكثر خيلاً ورجالأ، وأشد بأساً على ضيق بلاده عن مقدار أوفات. قال: ولملكها من العسكر نحو أربعين ألف فارس سوى الرجالة، فإنهم خلقٌ كثير مثل الفرسان مرتين أو أكثر. قال في تقويم البلدان: ومنها تجلب الخدام، وذكر أنهم يخصونهم بقريةٍ قريبةٍ منها. وذكر في مسالك الأبصار: أن الخدام تجلب إليها من بلاد الكفار. ثم حكى عن الحاج فرج الفوي التاجر: أنه حدثه أن ملك أمحرا يمنع من خصي العبيد وينكر ذلك ويشدد فيه. وإنما السراق تقصد بهم مدينة اسمها وشلو بفتح الواو والشين المعجمة واللام، وأهلها همج لادين عندهم فتخصى بها العبيد، لا يقدم على هذا في جميع بلاد الحبشة سواهم. قال: ولذلك التجار إذا اشتروا العبيد يخرجون بهم إلى وشلو فيخصونهم با لأجل زيادة الثمن، ثم يحمل من خصي منهم إلى مدينة هدية لقربها من وشلو فتعاد عليهم الموسى مرة ثانيةً لينفتح مجرى البول لأنه يكون قد استد عند الخصي بالقيح، فيعلجون بهدية إلى أن يبرءاو، ولأن أهل وشلو وإن كان لهم معرفةٌ بالخصي فليس لهم معرفةٌ بالعلاج، بخلاف أهل هدية قد دربوا على ذلك وعرفوه. ثم قال: ومع هذا فالذي يموت أكثر من الذي يعيش، وأضر ما عليهم حملهم بلا معالجة من مكان إلى مكانٍ، فإنهم لو عولجوا في مكان خصيهم كان أرفق بهم.
القاعدة الخامسة: شرحا:
بفتح الشين المعجمة وسكون الراء المهملة وحاء ثم ألف.
وهي مدينة تلي هدية المقدمة الذكر. ذكرها في مسالك الأبصار والتعربف ولم يصرح لها بوصف. قال في مسالك الأبصار: وطول مملكتها ثلاثة أيام، وعرضها أربعة أيام. قال: وعسكرها ثلاثة الأف فارس، ورجالة مثل ذلك مرتين فأكثر، وسيأتي الكلام على سائر أحوالها مع سائر أخواتها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
القاعدة السادسة: بالي:
بفتح الباء الموحدة وألف ثم لام وياء آخر الحروف.
وهي مدينةٌ تلي شرحا المقدمة الذكر ذكرها في المسالك والتعريف قال في المسالك: ولكنها أكثر خصباً، وأطيب سكناً، وأبرد هواءً، وسيأتي الكلام على سائر أحوالها مع سائر أخواتها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
القاعدة السابعة: دارة:
بفتح الدال المهملة وألف بعدها راء ثم هاء. وهي مدينةٌ تلي بالي المقدمة الذكر، ذكرها في المسالك والتعريف. قال في المسالك: وطولها ثلاثة أيام، وعرضها كذلك. وهي أضعف أخواتها حالأ، وأقلها خيلاً ورجالأ. قال: وعسكرها لا يزيد على ألفي فارس، ورجالة كذلك، وسيأتي الكلام على سائر أحوالها في الكلام على سائر أخواتها فيما بعد إن شاء الله تعالى.
الجملة الثانية في الموجود بهذه الممالك على ما ذكره في مسالك الأبصار:
قد ذكر أن عندهم من المواشي الخيل العراب، والبغال، والحمير، والبقر، والغنم بكثرة، أما المعز فقليلٌ عندهم. ومن الوحش: البقر، والحمر، والغزلان، والمها، والأبل، والكركدن، والفهد والأسد، والضبعة العرجاء، وتسمى عندهم من مرعفيف، وعندهم جواميس برية تصاد كما تقدم في إقليم مالي. وعندهم من الطيور الدواجن الدجاج، ولكن لا رغبة لهم في أكله استقذاراً له: لأكله القمامات والزبالأت، ودجاج الحبش يصيدونه ويأكلونه، وهو عندهم مستطاب.
وعندهم من الحبوب الحنطة، والشعير، والذرة، والطافي: وهو حب نحو الخردل أحمر اللون على ما تقدم ذكره في الكلام على القسم الأول من بلاد الحبشة.
وعندهم الخردل أيضاً. وعندهم من الفواكه العنب الأسود على قلة، والموز، والرمان الحامض، والتوت الأسود على قلة فيه، والجميز بكثرة. وعندهم من المحمضات: الأترج، والليمون، والقليل من النارنج. وعندهم تينٌ بري، وخوخ بري، ولكنهم لا يأكلون الخوخ دون التين. وعندهم فواكه أخرى لا تعرف بمصر والشام والعراق، منها شجر يسمى كشباد، ثمره أحمر على صفة البسر، وهو حلوٌ ماوي، وشجر يسمى كوشي، ثمر مستدير كالبرقوق، ولونه أصفر خلوقي كالمشمش، وهو مز ماوي، وشجر يسمى طانة، ثمره أصغر من البسر، وفي وسطه شبه النوى، وهو حلو صادق الحلاوة ونواة يؤكل معه لعدم صلابته. وشجر اسمه أوجاق- بفتح الواو والجيم- ثمره أكبر من حب الفلفل وطعمه شبيه به في الحرافة مع بعض حلاوة. وعندهم شجر جان المقدم ذكره في القسم الأول من بلاد الحبشة، وهو الذي يؤكل عندهم للذكاء والفطنة، ولكنه يقل النوم والنكاح على ما تقدم ذكره هناك. وعندهم من أنواع المقاثيء البطيخ الأخضر، والخيار، والقرع.
ومن الخضروات اللوبيا، والكرنب، والباذنجان، والشمار، والصعتر. أما الملوخيا فإنها تطلع عندهم بريةً.
الجملة الثالثة في معاملاتهم وأسعارهم:
أما معاملاتهم فعلى ثلاثة أنواع. منها هو بالأغراض مقايضةً: تباع البقر بالغنم ونحو ذلك ذلك كما في القسم الأول من بلاد الحبشة.
ومنها ما هو بالدنانير والدراهم كمصر والشام ونحوهما، وهو وفات وأعمالها خاصة.
قال في مسالك الأبصار: وليس بأوفاتٍ سكة تضرب بل معاملاتهم بدنانير مصر ودراهمها الواصلة إليهم صحبة التجار. وذلك أنه لو ضرب أحدٌ منهم سكة في بلاده لم ترج في بلد غيره.
ومنها ما هو بالحنكات، جمع حكنة- بفتح الحاء المهملة وضم الكاف والنون- كما ضبطه في مسالك الأبصار: وهي قطع حديد في طول الأبرة، ولكنها أعرض منها بحيث تكون في عرض ثلاثٍ إبر، يتعامل بها في سائر هذه البلاد سوى ما تقدم ذكره.
قال: وليس لهذه الحكنة عندهم سعر مضبوطٌ بل تباع البقرة الجيدة بسبعة الأف حكنة، والشاة الجيدة بثلاثة الأف حكنة، ونكال غلتهم بكليل اسمه الرابعية، بمقدار ويبة من الكيل المصري، وزنة أرطالهم اثنتا عشرة أوقية كل أوقية عشرة دراهم بصنجة مصر.
وأما الأسعار فكلها رخية حتى قال في مسالك الأبصار: إنه يباع بالدرهم الواحد منهم عندهم من الحنطة بمقدار حمل بغل، والشعير لا قيمة له. وعلى هذا فقس.
الجملة الرابعة في ملوكهم:
قد تقدم في الكلام على القسم الأول من بلاد الحبشة أن الحطي الذي هو سلطانهم الأكبر تحت يده تسعةٌ وتسعون ملكاً وهو لهم تمام المائة. وقد ذكر في التعريف: أن هذه السبعة من جملة التسعة والتسعين الذين هم تحت يده.
قال في مسالك الأبصار: والملك منهم في بيوت محفوظة إلا بالي اليوم، فإن الملك بها صار إلى رجل ليس من أهل بيت الملك، تقرب إلى سلطان أمحرا حتى ولاه مملكة بالي فاستقل ملكاً بها.
على أنه قد وليها من أهل بيت الملك رجال أكفاء، ولكن الأرض لله يورثها من يشاء.
قال: وجيمع ملوك هذه اممالك وإن توارثوها لا يستقل منهم بملك إلا من أقامه سلطان أمحرا، وإذا مات منهم ملكٌ ومن أهله رجال قصدوا جميعهم سلطان أمحرا، وتقربوا إليه جهد الطاقة، فيختار منهم رجلاً يوليه، فإذا ولاه سمع البقية له وأطاعوا، فهم له كالنواب، وأمرهم راجع إليه. ثم كلهم متفقون على تعظيم صاحب أوفات، منقادون إليه.
ثم قال: وهذه المملك السبع ضعيفة البناء، قليلة الغناء، لضعف تركيب أهلها، وقلة محصول بلادهم، وتسلط الحطي سلطان أمحرا عليهم، مع ما بينهم من عداوة الدين، ومباينة مكا بين النصارى والمسلمين. قال: وهم مع ذلك كلمتهم متفرقة وذات بينهم فاسدة.
ثم حكي عن الشيخ عبد الله الزيلعي وغيره: أنه لو اتفقت هذه الملوك السبعة واجتمعت ذات بينهم، قدروا على مدافعة الحطي أو التماسك معه، ولكنهم مع ما هم عليه من الضعف وافتراق الكلمة بينهم تنافس.
قال: وهم على ما هم عليه من الذلة والمسكنة للحطي سلطان أمحرا عليهم قطائع مقررة، تحمل إليه في كل سنة من القماش الحرير والكتان، مما يجلب إليهم من مصر واليمن والعراق.
ثم قال: قد كان الفقيه عبد الله الزيلعي قد سعى في الأبواب السلطانية بمصر عند وصول رسول سلطان أمحرا إلى مصر في تنجز كتاب البطريرك إليه، بكف أذيته عمن في بلاده من المسلمين وعن أخذ حريمهم.
وبرزت المراسيم السلطانية للبطريرك لكتابة ذلك، فكتب إليه عن نفسه كتاباً بليغاً شافياً، فيه معنى الأنكار لهذه الأفعال، وأنه حرم هذا على من يفعله، بعباراتٍ أجاد فيها، ثم قال: وفي هذه دلالة على الحال.
قلت: وقد كتب في أوائل الدولة الظاهرية برقوق كتابٌ عن السلطان في معنى ذلك، وقرينه كتابٌ من البطريرك متى بطريرك الإسكندرية يومئذ بمعناه.
وتوجه به إلى الحطي سلطان الحبشة، برهان الدين الدمياطي فذهب وعاد بالحباء من جهة الملك، لكن ذكر عنه أنه أتى أموراً هناك تقدح في عقيدة ديانته، والله أعلم بحقيقة ذلك.
وستأتي الأشارة إلى المكاتبة إلى هؤلاء الملوك السبعة في المقالة الرابعة في الكلام على المكاتبات إن شاء الله تعالى.
الجملة الخامسة في زي أهل هذه المملكة:
أما لبسهم، فإنه قد جرت عادتهم أن الملك يعصب رأسه بعصابة من حرير، تدور بدائر رأسه، ويبقى وسط رأسه مكشوفاً، والأمراء والجند يعصبون رؤوسهم كذلك بعصائب من قطن، والفقهاء يلبسون العمائم، والعامة يلبسون كوافي بيضاً طاقيات، والسلطان والجند يتزرون بثيابٍ غير مخيطة، يشد وسطه بثوب، ويتزر بآخر، ويلبسون مع ذلك سراويلات. ومن عداهم من الناس يقتصرون على شد الوسط والأتزار خاصة بلا لبس سراويل. وربما لبس القمصان منهم بعض الفقهاء وأرباب النعم.
وأما ركوبهم الخيل، فإنهم يركبونها بغير سروج، بل يوطأ لهم على ظهورها بجلود مرعزى حتى ملوكهم.
وأما سلاحهم فغالبه الحراب والنشاب.
الجملة السادسة في شعار الملك وترتيبه:
أما شعار الملك، فقد جرت عادتهم أن الملك إذا ركب تقدم قدامه الحجاب والنقباء لطرد الناس، ويضرب بالشبابة أمامه، ويضرب معها ببوقاتٍ من خشب، في رؤوسها قرون مجوفة، ويدق مع ذلك طبولٌ معلقة في أعناق الرجال تسمى عندهم الوطواط.. ويتقدم أمام الكل بوقٌ عظيم يسمى الجنبا، وهو بوق ملوي من قرن وحش عندهم من نوع بقر وحشي اسمه عجرين في طول ثلاثة أذرع، مجوف يسمع على مسيرة نصف يوم، يعلم من سمعه ركوب الملك فيبادر إلى الركوب معه من له عادة به.
وأما ترتيب الملك عندهم، فإن من عادتهم أن الملك يجلس على كرسي من حديد مطعم بالذهب، علوه أربعة أذرع من الأرض، ويجلس أكابر الأمراء حوله على كراسي أخفض من كرسيه، وبقية الأمراء وقوفٌ أمامه، ويحمل رجلان السلاح على رأسه. ويختص صاحب وفات بأنه إذا ركب حمل على رأسه جتر على عادة الملوك.
ثم إن كان الملك راكباً فرساً، كان حامل الجتر ماشياً بازائه والجتر بيده، وإن كان راكباً بغلاً، كان حامل الجتر رديفه والجتر بيده على رأس الملك.
وبالجملة فإنه يعد من حشمة الملك أو الأمير عندهم أنه إذا كان راكباً بغلاً أن يردف غلامه خلفه، بخلاف ما إذا كان راكباً فرساً فإنه لا يردف خلفه أحداً. وممات يعد بوفات من حشمة الملك أو الأمير أنه إذا مشى يتوكأ على يدي رجلين.
وملوكهم تتصدى للحكم بأنفسهم وإن كان عندهم الفضاة والعلماء.
وليس لأحدٍ من الأمراء ولا سائر الجند إقطاعات على السلطان ولا نقود كما بمصر والشام، بل لهم الدواب السائمة.
ومن شاء منهم زرع واستغل ولا يعارض في ذلك. وليس لأحدٍ من ملوكهم سماطٌ عامٌ، بل إنما يمد سماطه له ولخاصته، ولكنه يفرق على أمرائه بقراً عوضاً عن أمر أكلهم على السماط. وأكثر ما يعطى الأمير الكبير منهم مائتا بقرة.
قلت: وأهمل المقر الشهابي بن فضل الله في مسالك الأبصار والتعريف عدة بلاد من مماليك الحبشة المسليمن.
منها جزيرة دهلك. قال في تقويم البلدان: بفتح الدال المهملة وسكون الهاء ثم لام مفتوحة وكاف. وهي جزيرة في بحر القلزم. واقعةٌ في الإقليم الأول من الأقاليم السبعة.
قال في الأطوال: حيث الطول إحدى وستون درجة، والعرض أربع عشرة درجة.
قال في تقويم: وهي جزيرةٌ مشهورة على طريق المسافرين في بحر عيذاب إلى اليمن. قال ابن سعيد: غربي مدينة حلي في بلاد اليمن، فطولها نحو مائتي ميل، وبينها وبين بر اليمن نحو ثلاثين ميلاً وملك دهلك من الحبش المسلمين وهو يداري صاحب اليمن.
ومنها مدينة عوان بفتح العين المهملة والواو وألف ثم نون، وهي مدينةٌ على ساحل بحر القلزم مقابل تهامة اليمن حيث الطول ثمانٌ وسبعون درجة، والعرض ثلاث عشرة درجة ونصف درجة.
قال في تقويم البلدان: وإذا كان وقت الضحى ظهر منها الجناح وهو جبل عالٍ في البحر.
ومنها مدينة مقديشو بفتح الميم وسكون القاف وكسر الدال المهملة ثم شين معجمة وواو في الآخر كما نقله في تقويم البلدان: عن ضبطه في مزيل الأرتياب بالشكل.
وموقعها بين الإقليم الأول من الأقاليم السبعة وخط الأستواء.
قال ابن سعيد: حيث الطول اثنتان وسبعون درجةً، والعرض درجتان.
قال في مزيل الأرتياب: وهي مدينة كبيرة بين الزنج والحبشة.
قال: وهي على بحر الهند، ولها نهرٌ عظيم شبيه بنيل مصر في زيادته في الصيف. قال: وقد ذكر أنه شقيق لنيل مصر في مخرجه من بحيرة كورا، ومصبه ببحر الهند على القرب من مقدشو.
قلت: وقد أتى الحطي ملك الحبشة النصارى على معظم هذه الممالك بعد الثمانمائة وخربها وقتل أهلها وحرق ما بها من المصاحف وأكره الكثير منهم على الدخول في دين النصرانية، ولم يبق من ملوكها سوى ابن مسمار المقابلة بلاده لجزيرة دهلك تحت طاعة الحطي ملك الحبشة وله عليه إتاوة مقررة، والسطان سعد الدين صاحب زيلع وما معها وهو عاصٍ له خارج عن طاعته بينه وبينه الحروب لا تنقطع، وللسلطان سعد الدين في كثير من الأوقات النصرة عليه والغلبة والله يؤيد بنصره من يشاء.
واعلم أن ما تقدم ذكره من ممالك السودان هو المشهور منها، والأ فوراء ذلك بلادٌ نائية الجوانب بعيدة المرمى منقطعة الأخبار.
منها بلاد الزنج. وهي بلادٌ شرقي الخليج البربري المقدم ذكره في الكلام على البحار تقابل بلاد الحبشة من البر الآخر.
وقاعدتها سفالة الزنج، قال في تقويم البلدان بالسين المهملة والفاء ثم ألف ولام وهاء في الآخر. وموقعها جنوبي خط الأستواء.
قال في القانون: حيث الطول خمسون درجةً، والعرض في الجنوب درجتان.
قال في القانون: وأهلها مسلمون. قال ابن سعيد، وأكثر معايشهم من الذهب والحديد، ولباسهم جلود النمور. وذكر المسعودي أن الخيل لا تعيش عندهم، وعسكرهم رجالة، وربما قاتلوا على البقر.
ومنها بلاد الهمج جنوبي بلاد التكرور. فقد ذكر ابن سعيد أنه خرج على أصناف السودان طائفةٌ منهم يقال لهم الدمادم يشبهون التتر، خرجوا في زمن خروجهم فأهلكوا ما جاورهم من البلدان.
وذكر في مسالك الأبصار: عن ابن أمير حاجب والي مصر عن منسا موسى ملك التكرور أنهم كالتتر في تدوير وجوههم، وأنهم يركبون خيولاً مشققة الأنوف كالأكاديش، وأن همج السودان عدد لا يستوعبهم الزمان وأن منهم قوماً يأكلون لحم الناس.